جمال غيطاس
تغييرات مطلوبة في الخطاب الجماهيري لوزارة الصحة واجهزة الدولة
قلت قبل عدة أيام، أن دخول دولة ما في الإجراءات المتسارعة الحادة في التعامل مع وباء كورونا، يعني أن الأجهزة المعنية بها قد استشعرت أن معدلات الإصابة داخل اراضيها، قد اتخذت مسارا يرجح احتمالات حدوث التصاعد "الأسي" في الإصابات، وما يتبعه من الانزلاق إلي المراحل المتتابعة التالية، التي تنتهي بلحظة الانفجار في الإصابة، والانهيار في الرعاية، ثم التفكك بالنظام الصحي برمته.
أمس ذكرت وزيرة الصحة أنه بعد الحالة الألف، سيصعب تتبع مصدر الإصابات وحصرها، وإذا ما وضعنا هذا التصريح جنبا إلي جنب مع الخطوات المتصاعدة الحدة التي اتخذتها الدولة، وكان أحدثها منع صلاة الجمعة والجماعة بالمساجد، ومنع أي قداس بأي كنيسة، بعد موجة من الجدل، وحالة من التردد، يتبين لنا أننا قد وصلنا لوضعية تحتم تغيير الخطاب الجماهيري لوزارة الصحة واجهزة الدولة، بما يهيئ الشعب لمرحلة التعامل بواقعية مع الأوضاع الحقيقية للنظام الصحي للبلاد بلا مواربة.
استطيع القول أننا بلغنا نهاية المرحلة التي يسمح فيها بان تكون التوعية بأسباب المرض، وطرق الوقاية، هي الجانب المتسيد وحده للخطاب الجماهيري، وأصبح من المتعين علينا المسارعة ـ اليوم وليس غدا ـ بالانتقال إلي المرحلة التالية، التي تدفع فيها الدولة بالحديث الصريح والمكاشفة التامة، حول قدرة النظام الصحي القومي علي التعامل مع الازمة خلال الأسابيع المقبلة، بما يهيئ الفرصة لإدماج جهود الجميع، فرادي وجماعات، لتدعيم قدرة النظام علي المواجهة، والعمل علي تفادي، أو علي الأقل إبطاء الوصول إلي وضعية "الانفجار في الإصابة، والانهيار في الرعاية" علي غرار ما هو حاصل حاليا بإيطاليا.
هذا التغيير النوعي مطلوب علي الفور من اليوم، وعلي الدولة أن تلجأ في ذلك إلي مزيج من المحتوي الحي الجاد، القابل للتوظيف الميداني علي مدار اللحظة، بما يتضمنه من بيانات ومعلومات محدثة، متدفقة، تغطي الجانب المؤسسي والإداري والاقتصادي والعملياتي علي الأرض، ليتحول الجميع دون استثناء إلي شركاء في المواجهة، لا مجرد متلقين لبضعة تعليمات بلهاء في كثير من الاحيان وبعيدة عن الاعلام العلمي المحترف، وتتمحور في معظمها حول النظافة والكحول والكمامة وغسل اليدين عند الدخول للمنزل.
لتوضيح طبيعة هذا التحول الذي حدث فعليا بالعديد من دول العالم، أعرض بعض النقاط التي يتعين علي الدولة أن تدخلها بكل شفافية وتكامل وشمول في خطابها الجماهيري، ومنها علي سبيل المثال لا الحصر:
1ـ نسب الإشغال الحالية بالأسرة في المستشفيات، ومدي توافر الاسرة الشاغرة، علي مستوي مدن ومحافظات الجمهورية كافة، ليتعرف جميع المواطنين علي مدي جاهزية المرافق الصحية المحيطة بهم، بما يساعدهم في التعامل مع تطورات الازمة حال تصاعدها وتخطيها مستوي الألف إصابة الذي أعنته وزيرة الصحة، وما هي أقرب منشأة صحية يمكنهم التوجه اليها.
في فرنسا بدأ هذا الاسبوع استخدام الطائرات الصغيرة بدون طيار" الدرونز" في إدارة هذا البعد من الأزمة، عبر تبادل حي للبيانات علي المستوي المحلي والإقليمي وعلي مستوي الدولة، كما أعلن عن خطة لاستخدام الطائرات وبعض وسائل المواصلات السريعة الاخرى، لإدارة عملية التحكم في توزيع الإصابات علي المرافق الصحية للدولة، باعتبارها شبكة متكاملة، فنقلت اصابات من مدن في الشمال إلي مدن في الجنوب، ومن الشرق إلي الغرب، عبر عملية مرنة، رأت الدولة هناك أنه لابد من إشراك المجتمع بها، علي الأقل ليعرف أهل المصابين الجهة المرجح أن يذهبوا إليها.
2ـ المتاح بمخازن البلاد من الكمامات الواقية، وادوات النظافة والتطهير، سواء للمواطنين، أو الطواقم الطبية، وأماكن تواجدها، والتقديرات الخاصة بمعدلات الاستهلاك الحالية أو المتوقعة مع تصاعد الازمة، والقدرة الإنتاجية، وكفاءة سلاسل الإمداد والتوريد، وقواعد التوزيع والاستهلاك، وإجراءات المراقبة والرصد في تداولها، والدور المطلوب من المواطنين القيام به حيال هذا الأمر، سواء من حيث معدلات الاستهلاك المتوقعة المسموح بها لكل شخص، أو مكافحة عمليات الاستغلال والبيع بالسوق السوداء، وغيرها من اوجه الفساد والاتجار بالأزمة المعتادة في مثل هذه الظروف.
الرئيس الامريكي ترامب تحدث في مؤتمر صحفي بالأمس لعدة دقائق عن الكيفية التي ستدير بها اجهزة الدولة الأمريكية أزمة النقص في الكمامات وادوات التطهير، وجداول وصولها للولايات التي تعاني نقصا.
3ـ أعداد اجهزة الأكسجة داخل الدولة، التي يعالج بها المصابون بضيق التنفس، هذا إن كانت موجودة من الأصل، وأماكن وجودها، وخريطة توزيعاتها، والعدد الأقصى من المصابين الذين بإمكانها خدمته، في ضوء توقعات الدولة للتصاعد في معدلات الإصابة، وما الذين يتعين علي المواطنين القيام به حيال هذا الأمر، حتي لا يحدث اضطراب، وسوء توزيع او تدافع بلا معني، إذا ما اشتدت الأزمة.
4 ـ البيانات والمعلومات التي توضح قدرات الدولة الحالية والمتوقعة فيما يخص اجراء التحاليل الخاصة بالفيروس، والحد الأقصى المنفذ حاليا، وكيفية إدارة هذا المكون من خطة المواجهة، سواء من حيث عدد التحليلات، أو شروط اجرائها، وتوزيعها الجغرافي، بحسب الإمكانات المتاحة، وتوضيح الحالات والأماكن والتوقيتات التي لن تكون فيها مثل هذه التحليلات متاحة للمشتبه بهم، وكيفية التصرف.
لقد أظهرت إحصاءات وبائيات المرض بكل من ألمانيا وكوريا وفرنسا واسبانيا وبريطانيا وايطاليا، ان هناك ارتباط واضح بين العدد الإجمالي للتحاليل التي تجري حول المرض، ومعدل كل من الإصابات والوفيات، فكوريا كانت صاحبة العدد الأكبر من التحليلات اليومية، وسجلت أقل مستوي من الإصابات، وبلا وفيات، تليها في هذا السياق ألمانيا، التي سجلت وفيات بلغت 0.18 % من الإصابات، وجاءت إيطاليا في الذيل كأقل دولة من بين الدول السابقة، من حيث عدد التحليلات المنفذة، وأكبر دولة من حيث الإصابات والوفيات، بل احتلت الدولة رقم واحد عالميا من حيث الوفيات، بعد إضافة عدد وفيات امس البالغ 627 حالة.
5 ـ توضيح تام وشفاف لقدرة الطواقم الطبية الحالية، بالمرفق الصحي بالبلاد، علي تلبية الاحتياجات الحالية والمعتادة للمحتاجين للرعاية الطبية الحالية، وخلال الاسابيع المقبلة، من غير المصابين بالوباء، ويشمل ذلك المدرجين علي قوائم العمليات الجراحية، ومصابي الحوادث والحروق، ومصابي الازمات القلبية والدماغية وغيبوبات السكر والكبد، وغيرها من الازمات الصحية المتواترة، وما هي خطة الأولويات في هذا الصدد، وكيف سيتم إدارة وتوزيع الموارد المتاحة بالمرفق الصحي بين كل هؤلاء من جهة، والمصابين بالوباء من جهة اخري.
6 ـ أن يتم بكل شفافية الإعلان عن المدي الزمني الذي ستحدث فيه دورات الإجهاد المتوقع أن تتعرض لها الطواقم الطبية، نتيجة الضغط المزدوج عليهم، من جانب الاعباء المعتادة، والاعباء الطارئة للوباء، ومتي يمكن أن يحدث التراجع والانهيار في أداء الطواقم الطبية نتيجة الاجهاد الجسماني المتوقع، وخروجها من الخدمة لفترات قد تطول بالساعات أو الأيام، وكيف سيتم تعويض النقص الناجم عن هذه الانهيارات الأدائية ميدانيا.
امريكا تتوقع دورة إجهاد بين 24 و48 ساعة، بعد وصول عدد الإصابات علي مستوي البلاد إلي 100 ألف إصابة، وبعدها تخرج طواقم ووحدات طبية تباعا من الخدمة، والتصرف المحتمل هو الدفع بطواقم جديدة يتم تدريبها علي عجل، مع استدعاء المتقاعدين، ومن تركوا الخدمة سابقا لأية أسباب.
7 ـ أن يتم بكل شفافية مشاركة المواطنين في كيفية التصرف عند الوصول إلي نقطة عجز المرفق الصحي عن التعامل مع الإصابات، ومن أبرز الحالات الدالة علي ذلك نفاد الاسرة الشاغرة بالمستشفيات، وهذا الأمر يتطلب توضيح البروتوكول الطبي والأخلاقي المعد للتعامل مع هذا الوضع الذي ستتسم فيه الموارد العلاجية وأوجه الرعاية الصحية بالندرة الشديدة، فيما تتسم فيه الإصابات والاحتياجات بالكثرة والكثافة الشديدة، ويتعين أن يكون واضحا للمجتمع بأسره الأساس أو المعيار الذي سيستخدم في تحديد الأولي بالرعاية عن غيره من المواطنين.
في بريطانيا تم وضع هذه النقطة قيد النقاش المجتمعي والعلمي والجماهيري الموسع خلال الفترة الماضية، وقدم رئيس الوزراء خطة وصفها البعض بالقسوة الشديدة، ووصفها البعض الآخر بالطريق الوحيد للخروج من الأزمة، وتضمنت بنودا صريحة، تجيز التحكم في توجيه الرعاية الصحية، لفئات من المرضي دون غيرهم، والتضحية ببعض الاقلية، لتعيش الأغلبية حال اشتداد الأزمة.
قسوة الوضع، وضخامة المخاطر والخسائر التي حدثت بالعديد من البلدان، دفعت إلي مثل هذه النقاشات الصريحة بكل شجاعة وثبات، وبلا تردد، فالدول باتت تري نفسها ومواطنيها في خطر وجودي جدي لا هزل فيه.
هذه مجرد أمثلة لأوجه التغيير المطلوب إدخالها علي الخطاب الجماهيري لوزارة الصحة واجهزة الدولة بدءا من اليوم، فالوباء جعل الجميع تحت وطأة أزمة لم يتعمدها أحد، وليس خارج دائرة خطرها احد، وهذا وقت التكاتف والمشاركة والتعاون ووضع الاختلافات والخلافات جانبا، وليس وقت خلاف مشروع ومقبول في وجهات النظر مع الحكومة أو نظام الحكم حول هذه القضية او تلك، بل هو لحظة الحقيقة التي ليس لها سوي الاصطفاف والمكاشفة والشفافية.
واجب الدولة في هذه اللحظة القاسية، أن تقدم الإيضاحات الضرورية للمواطنين بشأن العبء المتوقع أن يقع علي مرفقنا الصحي الوطني، لوضع كل مواطن دون استثناء أمام مسئوليته، في المشاركة من أجل المجموع، وليس فقط المتابعة من اجل السلامة الشخصية.
من واجبنا جميعا تقديم أقصي ما يمكن من دعم لجهود الدولة، ولكي يتم ذلك بصورة فعالة، يجب أن يتوقف علي الفور الخطاب الجماهيري المهترئ السائد حاليا، المحشو بالتفاهات والمعالجات السطحية، والنفاق السياسي الواضح من قبل ابواق حان وقت إغلاقها وغروبها عن المشهد، ليحل محلها خبراء ومحترفون.
من الواجب الآن تنظيف عقل الوطن، وذهن الدولة وإدارتها مما يحدثه هؤلاء من تشويش جماهيري لا وقت له علي الإطلاق.
علي الرغم مما يحدث حاليا من هزل إعلامي موجع، تجاه جائحة شاملة بهذا الشكل، لا زلت أثق في أن الدولة بها من العقلاء والخبراء من يعون ذلك جيدا، ويستطيعون تغييره في الوقت المناسب قبل فوات الأوان.