كتب – روماني صبري
تحل اليوم 21 مارس، ذكرى ميلاد الشاعر السوري الكبير نزار قباني، حيث ولد في مثل هذا اليوم عام 1923، ويعد "قباني" من أهم الشعراء السياسيين والرومانسيين في الشرق الأوسط، رأى فيه البعض شاعرا للنساء، كون آلاف الفتيات والسيدات أبدين إعجابهن بقصائده الرومانسية، التي طالبهن فيها بالخروج من عباءة الجهل والبداوة، ويثرن على التقاليد العربية كونها أجبرتهن على الزواج دون رغبتهن في سن صغيرة، فيما رآه البعض الآخر شاعرا سياسيا كبيرا حين كتب قصيدته الشهيرة "خبز وحشيش وقمر"، والتي انتقد فيها الجهل والتخلف والاتكالية العربية في الشرق بقوله :" أي ضعفً و انحلالْ، يتولاّنا إذا الضوء تدفقْ فالسجاجيدُ.. و آلاف السلالْ..و قداحُ الشاي .. و الأطفالُ..تحتلُّ التلالْ في بلادي حيث يبكي الساذجونْ و يعيشونَ على الضوء الذي لا يبصرونْ.. في بلادي حيث يحيا الناسُ من دونِ عيونْ.. حيث يبكي الساذجونْ.. و يصلونَ.. و يزنونَ.. و يحيونَ اتكالْ.. منذ أن كانوا يعيشونَ اتكالْ، وبسبب هذه القصيدة آثار قباني غضب الرأي العام لاسيما المتشددين الذين طالبوا بقتله، لكن رغم التهديدات ظل يكتب وينتقد، فيقول في قصيدته "أنا يا صديقتي متعب بعروبتي" شاكيا :" أنا يا صديقة متعب بعروبتي، فهل العروبة لعنة وعقاب ؟ .. أمشي على ورق الخريطة خائفا، فعلى الخريطة كلنا أغراب، أتكلم الفصحى أمام عشيرتي وأعيد ... لكن ما هناك جواب لولا العباءات التي التفوا بها ما كنت أحسب أنهم أعراب يتقاتلون على بقايا تمرة، فخناجر مرفوعة وحراب قبلاتهم عربية .. من ذا رأى فيما رأى قبلا لها أنياب ؟! .
البداية
ولد نزار في دمشق القديمة في حي "مئذنة الشحم" وتربي في بيت دمشقي عربي، وكتب في مذكراته حول هذا :" ورثت من القباني والدي حب الشعر، وورثت عن جدي حبي للفن، كما كنت أحب الرسم فوجدت نفسي حين بلغت الخامسة والثانية عشرة من عمري غارقا في بحر من الألوان، ومرد محبتي للجمال والألوان واللون الأخضر بالذات أنه كان في منزلنا الدمشقي .. كان لدينا أغلب أصناف الزروع الشامية من زنبق وريحان وياسمين ونعناع ونارنج، وكأي فتى في هذا السن، ما بين سن الخامسة عشر والسادسة عشر كنت احتار كثيرا ماذا افعل.
فبدأ بكونه خطاطا تتلمذ على يد خطاط يدوي ثم اتجه للرسم ولعشقه للرسم كتب ديوانا أسماه الرسم بالكلمات، ومن ثم شغف بالموسيقى، وتعلم على يد أستاذ خاص العزف والتلحين على آلة العود، لكن الدراسة خاصة خلال المرحلة الثانوية، جعلته يعكف عنها، ثُم رسا بالنهاية على الشعر، وراح يحفظ أشعار عمر بن أبي ربيعة، وجميل بثينة، وطرفة ابن العبد، وقيس بن الملوح، متتلمذًا على يدِ الشاعر خليل مردم بِك وقد علمه أصول النحو والصرف والبديع، في طفولته انتحرت شقيقته وصال، بعد أن أجبرها أهلها على الزواج من رجل لم تكن تحبه، وهو ما ترك أثرا عميقا في نفسه، وربَما ساعد في صياغة فلسفته العشقية لاحقا ومفهومه عن صراع المرأة لتحقيق ذاتها وأنوثتها، ولم يكشف عن حقيقة هذه الحادثة باكرا بل قال أنها توفيت بمرض القلب، إلا أن كوليت خوري كشفت قصة الانتحار، وهو ما ثبت لاحقا في مذكراته الخاصة، إذ كتب: "إن الحبّ في العالم العربي سجين وأنا أريد تحريره"، يصف نزار حادثة الانتحار بقوله: "صورة أختي وهي تموت من أجل الحب محفورة في لحمي... كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدوية، كما ارتبط بعلاقة قوية مع أمه.
روما تسحره
عام 1939 كان نزار في رحلة مدرسية بحريّة إلى روما، حين كتب أول أبياته الشعرية متغزلا بالأمواج والأسماك التي تسبح فيها، وله من العمر حينها 16 عاما، ويعتبر تاريخ 15 أغسطس 1939 تاريخا لميلاد نزار الشعري، كما يقول متابعوه.
نزار والسمراء
التحق نزار بكلية الحقوق في جامعة دمشق، وتخرج منها في عام 1945، ونشر خلال دراسته الحقوق أولى دواوينه الشعرية وهو ديوان "قالت لي السمراء" حيث قام بطبعه على نفقته الخاصة، وقد أثارت قصائد ديوانه الأول، جدلا في الأوساط التعليمية في الجامعة، وقد كتب له مقدمة الديوان منير العجلاني الذي أحب القصائد ووافق عليها، وقد ذاع صيته بعد نشر الديوان كشاعر إباحي، وفي تعليقه حول صدور ديوانه الأول كتب:" قالت لي السمراء حين صدروه أحدث وجعا عميقا في جسد المدينة التي ترفض أن تعترف بجسدها وأحلامها .. هاجموني بشراسة وحش مطعون .. وكان لحمي يومئذ طريا."
اكتب بالسكين
بعد نكسة 1967، أصاب نزار الحنق والغضب، فكتب قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" والتي قال فيها :
أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغةَ القديمة
والكتبَ القديمة
أنعي لكم..
كلامَنا المثقوبَ، كالأحذيةِ القديمة..
ومفرداتِ العهرِ، والهجاءِ، والشتيمة
أنعي لكم.. أنعي لكم
نهايةَ الفكرِ الذي قادَ إلى الهزيمة
مالحةٌ في فمِنا القصائد
مالحةٌ ضفائرُ النساء
والليلُ، والأستارُ، والمقاعد
مالحةٌ أمامنا الأشياء
يا وطني الحزين
حوّلتَني بلحظةٍ
من شاعرٍ يكتبُ الحبَّ والحنين
لشاعرٍ يكتبُ بالسكين
تجربته الصعبة الأخرى
يوم 15 ديسمبر عام 1981، استشهدت زوجته العراقية "بلقيس"، في عملية إرهابية استهدفت السفارة العراقية في بيروت، وكتب قباني واصفا حزنه ومرارة التجربة :"
كنت في مكتبي بشارع الحمراء حين سمعت صوت انفجار زلزلني من الوريد إلى الوريد ولا أدري كيف نطقت ساعتها : يا ساتر يا رب.. بعدها جاء من ينعي إلي الخبر.. السفارة العراقية نسفوها.. قلت بتلقائية بلقيس راحت.. شظايا الكلمات مازالت داخل جسدي.. أحسست أن بلقيس سوف تحتجب عن الحياة إلى الأبد، وتتركني في بيروت ومن حولي بقاياه، كانت بلقيس واحة حياتي وملاذي وهويتي وأقلامي".
وكعادته ترجم حزنه والوحشية داخل المجتمعات العربية عبر قصيدة "بلقيس" التي دعاها على اسم زوجته :"
شُكراً لكم ..
شُكراً لكم . .
فحبيبتي قُتِلَت .. وصار بوُسْعِكُم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدهْ
وقصيدتي اغْتِيلتْ ..
وهل من أُمَّـةٍ في الأرضِ ..
- إلا نحنُ - تغتالُ القصيدة ؟
سأقول في التحقيق.. إني قد عرفت القاتلين..
بلقيس.. يافرسي الجميلة..إنني من كل تاريخي خجول
هذي بلاد يقتلون بها الخيول..
سأقول في التحقيق:
كيف أميرتي اغتصبت..
وكيف تقاسموا الشعر الذي يجري كأنهار الذهب
سأقول كيف استنزفوا دمها..
وكيف استملكوا فمها..فما تركوا به وردا
ولا تركوا به عنبا..
هل موت بلقيس..هو النصر الوحيد في تاريخ كل العرب؟
الرحيل
عام 1998 رحل قباني عن عالمنا عمر ناهز 75 عاما في لندن، اثر تعرضه لازمة قلبية حادة، وتم دفته في دمشق تنفيذا لوصيته.