عادل نعمان
وليس كل اتهام حول هذا الموضوع الذي نتناوله حقيقيًّا، وليس صادقًا، ولا نحاول أن نبحث لأنفسنا عن عيب أو نقيصة، أو ندع لخصومنا فرصة للمساءلة أو المطاردة، ولا نرى أنه مروق عن الدين كما يصورنا المدافعون عنه من مشايخنا، أو المحاربون له من الخارجين على الأديان، وليس من حق الأول اتهامنا بهذه النقيصة ولا يقلقنا هذا، ولسنا سعداء بمدح الآخرين لنا ولا يسعدنا هذا، إلا أن ما يقلقنا ويشغل خاطرنا هذه المساحة الضيقة من العقل في تاريخنا الإسلامى قديما وحديثا، ولم يأخذ أصحابه حظهم ونصيبهم كما أخذها أصحاب النقل، ولو تركوه بحريته يحكم ويبحث لكان لنا في الحضارة الإنسانية النصيب الوافر، وكان لنا من حضارة الغرب حقنا ونصيبنا من «المدرسة الرشدية» ونحن تلاميذه وأحفاده وأولى بعلمه ومدرسته، وهذا أشد ما يقلق ويحرض على الجدل والنقاش، ويدعو إلى الاشتباك، والاجتهاد ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
والصراع قائم بين العقل والنقل منذ عصور، وأصحاب العقل يديرون الصراع بالعقلاء والبلغاء والحكماء وهم قلة في عالمنا الإسلامى، وأصحاب النقل يديرونه بالدروشة والثرثرة والحشو، وهم للأسف كثر، والتفاوت كبير وعميق بين ظهير العقلاء والحكماء، وظهير هؤلاء، فهذا ظهير عاقل، يديرها بالحوار والجدال والتحدى والمواجهة والتفكير، وذاك ظهير جارف طارد شرس غلول، يديرها بالبغى والمطاردات والتكفير والقتل، وهم يلجأون إلى الحشو والحشر والتلفيق إن هم وجدوا تناقضا أو فجوة بين العقل والعلم من ناحية وبين النقل من أخرى، وكذبوا العقل والعلم ولم يكذبوا النقل أو الناقل أو الموروث، أو ملأوا المسافة بينهما بالثرثرة والحشو والترهات وأساطير الأولين، فزادت الفجوة بينهما، وتخاصما، ورفض كل منهما الآخر، حتى وإن حاول أصحاب النقل مغازلة العقل أحيانا كثيرة، تقية سياسية أو مغازلة اغتصاب، بدا وكأن فيلًا يداعب حمامة فكسر عظامها الرقيقة، فلما أنقذوا النقل في عصور سابقات وتغلبوا على العقل بظهيرهم هذا الذي ملأ الصفوف الأولى يهتف ويصفق ويهلل ويكفر، إلا أن القدرة على عزل العقل قد خارت ووهنت، وخفت حدة التصفيق وأصوات المهللين، حين سمعوا مناديا من خلف الصفوف ينادى: يا قوم فكروا وتدبروا يرحمكم الله.
أما موضوعنا وباختصار أن للأحكام وللنصوص أعمارا تنتهى بقدر الله، فإن هرمت وعجزت انصرف الناس عنها، ولجأوا إلى غيرها لحاجتهم إليها، ويكون الحاجة إليها قد انتقلت إلى غيرها بفعل المصلحة والمنفعة وهى سنة الله في كونه، يقرر هذه الحاجة والمصلحة الناس جميعا، فيلجأون للمشرع البشرى يشرع لهم أو يعدل لهم طالما انقطع الوحى بين السماء والأرض، وانتهى دور النبوة بينهما، فيصبح العقل وحده وليس غيره هو الوسيط في هذا الشأن، فلما أبطل عمر بن الخطاب حد قطع يد السارق في عام المجاعة كان تشريعا بشريا، ولما منع سهم المؤلفة قلوبهم في الزكاة كان تشريعا بشريا، ولما حجب عن الجند «الغزاة» تقسيم الأراضى والدور للبلاد الموطوءة والخمس عن الخليفة، كان تشريعا بشريا أيضا، ألغى بها نصوصا وأحكاما إلهية قطعية الثبوت قطعية الدلالة.
وإن كانت الثورات التحررية والمبادرات الإنسانية والارتقاء الأخلاقى والقيمى للمجتمعات، إلا أنها شاعت بين الأمم وتبادلها الناس، وأصبحت قانونا وتشريعا دوليا، باركته الدول والأفراد، وأصبح الخروج عنها شاذا وغريبا ومستهجنا حتى من أصحاب العقائد والأديان التي تجيزها شرعا، ولها أسانيدها من الكتب السماوية، وهى حركة تحرر العبيد التي بدأت في أمريكا بمبادرة من «أبراهام لينكولن» الرئيس الأمريكى، وما صاحبها بالضرورة إلى التخلص من ملك اليمين والجوارى والإماء وعدم قانونية العلاقة بينهم وبين الرجل بالملكية، ورفع سن الزواج إلى سن متقدمة تضمن سلامة المرأة وكمال رشدها وعقلها، وتنال حقها من التعليم، وقسطا وافرا من فترة الطفولة لاكتمال بنائها النفسى، وكل هذا لم يكن من اليسر الحصول عليه سواء من سيطرة الأديان ورجالها أو المستفيدين من بقاء العبودية والرق وسبى النساء، إلا بالثورة والتمرد والتصعيد المستمر.
هذه المصلحة التي فرضها الناس، وهذه الثورات التي فرضتها الشعوب، غيرت وبدلت في الأحكام، ورفعت وأوقفت نصوصا قطعية الدلالة عن العمل، تتلى قرآنا وتنزيلا، ويتعبدبها وينسخ حكمها ولا يعمل بها، أليس هذا عمرا؟
لا سبيل إلا العقل، ولا طريق سواه، هو الحكم، وبه يعرف الشر من الخير، والحق من الباطل، حتى الإيمان الحق سبيله العقل، هو الوسيط الآن بيننا وبين الخالق، اليوم وغدا، شاءت إرادتهم أم أبت.
نقلا عن المصرى اليوم