مصطفي الفقي
يتقدم العلم خطوات واسعة ليقهر الأمراض الكبرى عبر التاريخ، ولكن الله يبتلى البشر بما يُذكِّرهم دائمًا بأنهم لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا الجبال طولًا، وأنا أتذكر الآن أحقابًا من التاريخ انتشر فيها الطاعون، وقضى على جيوش بالكامل وأدى إلى اندحار غزوات وانتصار شعوب مقهورة، فلما عرف العالم كيفية الخلاص من ذلك الداء اللعين جاءهم مرض السل يتهادى ليفتك بالملايين فى أنحاء المعمورة، ومن أشهر شهدائه الزعيم الوطنى مصطفى كامل، الذى قضى إلى رحاب ربه شابًا، وقد ارتبط السل بسوء التغذية وفقر المجتمعات وتكدس العمال، فى ظل الثورة الصناعية الكبرى، فلما عرفت البشرية المضادات الحيوية كان انتشار الكوليرا وتوطُّنها مقترنًا بمرض التيفويد، وقد أدى ذلك إلى حصد ملايين الأرواح أيضًا، والمصريون لا يزالون يتذكرون مأساة الكوليرا فى النصف الثانى من أربعينيات القرن الماضى، وكانوا يسمونه «الوباء»، دون التركيز على حرف الهمزة الأخير، إلى جانب البلهارسيا المتوطنة فى مياه النهر، والملاريا هدية البعوض للبشر حول المياه الراكدة، ثم أطل الإيدز على البشرية داعيًا إلى العفة مُنذرًا بمخاطر الانحلال الخلقى، ونلاحظ أن معظم هذه الأمراض كان لها عائل حيوانى بدءًا من الفئران فى حالة الطاعون وصولًا إلى البعوض فى حالة الملاريا، وهكذا احتدم الصراع دائمًا بين الأمراض الفتاكة فى جانب والتقدم العلمى السريع فى مجالات الطب والصيدلة على الجانب الآخر، وها هى البشرية تفزع من جديد لوباء شرس يتمثل فى فيروس مستحدث، هو الكورونا، الذى يتردد أن عائله الأصيل هو نوع من الخفافيش مثلما ارتبطت أنفلونزا الطيور بالدواجن، لذلك فإن التماسّ بين الإنسان وما يأكله قد أصبح فى حاجة إلى المراجعة، وإن كانوا يقولون إن مليارًا ونصف المليار فى الصين يمكن أن يأكلوا كل ما هو مُتاح، إلا أن شريعة الحياة ونوعية القبول بأطعمة مختلفة هى مسألة ثقافية بالدرجة الأولى، فما يتذوقه الصينى قد لا يقبله الهندى، وما يتحمس له اليابانى قد يتحول إلى طبق عالمى هو «السوشى» على سبيل المثال، فالطعام نوع من الثقافة وتعبير عن الهوية، ولكن النتائج فى النهاية هى حصاد بشرى شامل لا يقف عند حدود، وقد تأثر العالم اقتصاديًا وسياحيًا، كما تأثرت حركة الطيران بين قارات العالم المختلفة بوباء الكورونا، وأصبحنا جميعًا أمام خطر داهم سريع الانتشار يهدد البشرية فى كل مكان دون استثناء، وعندما قالوا إن بؤرة المرض تركزت فى بعض الدول، مثل الصين وإيران وإيطاليا وكوريا الجنوبية، فإن التفسيرات تعددت وأصبحنا أمام ظواهر يصعب فك شفرتها أو القطع فيها، ويعلمنا درس وباء كورونا على المستوى المصرى الملاحظات التالية:
أولًا: أهمية الاستعداد لمواجهة الأخطار المحتملة من الأوبئة الطارئة أو الأمراض العابرة، ويجب أن نعترف بأن الحكومة المصرية كانت هذه المرة أكثر اهتمامًا واستعدادًا من قبل، ويكفى أن وزيرة الصحة قد ذهبت بنفسها إلى بيت الداء فى الصين، وزارت ذلك الشعب الصديق لتأكيد معانى العلاقات التاريخية القوية بيننا فى السراء والضراء، وقد عادت الوزيرة المصرية بصحة وعافية، بينما وزيرة الصحة البريطانية أصابها داء الكورونا وهى فى مكتبها، وهو ما يؤكد أن الجينات المصرية قوية بحمد الله طاردة لكل الأمراض المتوطنة أو الوافدة!
ثانيًا: إن التوعية العامة تخلق درجة عالية من الاهتمام لدى الأسرة المصرية، وتجعلها أكثر حرصًا على نظافة اليدين والبُعد عن الزحام الشديد والتوقف عن العادات القبيحة، وفى مقدمتها التقبيل المتبادل صباح مساء بين الرجال والنساء على السواء ودون مبرر إلا المزيد من النفاق وإظهار المحبة الزائفة، بل إن المصافحة بالأيدى هى أمر تخلصت منه حضارات كثيرة مثلما هو الأمر فى اليابان مثلًا، وهنا نلفت النظر إلى ضرورة الابتعاد عن الفزع والتهويل أو التهوين فى كل الحالات.
ثالثًا: يعترف كثير من المصريين- وهم لا يعترفون غالبًا- بأن الرعاية الصحية وأسلوب المتابعة التى تلقّاها مرضى الكورونا داخل البلاد سواء فى الحجر الصحى أو مستشفيات الحميات كانت تعبيرًا عن تطور إيجابى يسجل للحكومة الحالية، كما أن وزارة الطيران المدنى أعطت اهتمامًا خاصًا بالمطارات المصرية، وكشفت عن حالات كان يمكن أن تمر لو لم تكن الكشوف دقيقة والملاحظة يقظة.
إن فى كل عصر طاعونًا جديدًا حتى يتذكر الإنسان أن الصحة تاج على رؤوسنا لا نراه إلا أمام الأمراض العضال وفى مواجهة الأوبئة الشرسة!
نقلا عن المصري اليوم