تحقيق- نورا نجيب
البابا "شنودة الثالث".. ذهبي الفم والقلم.. الشعر والأدب جانب هام جدًا من جوانب شخصية ذلك العلامة، فهو تعلَّم الشعر على يد أحد الكتب القديمة في الشعر، وهو كتاب "أهدي سبيل إلى عِلميّ الخليل" للأستاذ "محمود مصطفى"، وبدأ يتعلم البحر والقوافي ونظم الشعر المختلفة.. فكان يكتب بعض الأشعار وهو طالب حول بعض مواد الدراسة أو في الاحتفالات المختلفة.
اصطبغ شعره عقب تخرجه وانخراطه في السياسة بالطابع الحماسي، نتيجة لما كانت تمر به البلاد من تغيرات سياسية جذرية، وبخاصة آخر سنوات الحكم الملكي، وكانت أشهر قصيدة له حينها هي "الرسالة موجَّهة إلى رفعة الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا"، والتي ألقاها في الاجتماع الشهري الذي كان ينظمه "مكرم عبيد باشا"- زعيم الكتلة الوفدية- والتي يهاجم فيها "مصطفى النحاس" الذي كان على خلاف مع "مكرم عبيد": "الشعب منك تبرم وللإله تظلم… وأنت في الحكم تلهو… وفي الملأ تتهكم… تلهو وتظهر نبلاً حتى انبرى لك مكرم…"، وهي القصيدة التي دفعت البوليس السياسي إلى الهجوم على منزله وتفتيشه، وكان "مكرم عبيد" يلقبه بـ"شاعر الكتلة الوفدية".
ثم بدأ بعد رهبنته في كتابة قصائد روحية وأشعار دينية تلمس مواضيع مسيحية وروحية عدة.. وتم تلحين بعضها، وأصبحت ترانيم شهيرة لجمال كلماتها ومعانيها وألحانها.. ومن القصائد التي ألفها: "هوذا الثوب خذيه" التي بدأها "هوذا الثوب خذيه إن قلبي ليس فيه" وكان ذلك عام 1946، وأيضًا قصيدة "الكرمة" التي قال فيها: "هذه الكرمة يا مولاي من غرس يمينك نبتت من شوكة كانت على طرف جبينك".
وحول موهبة البابا الشعرية والأدبية، تحدَّثنا إلى بعض الأدباء..
في البداية، قال "أحمد زرزور"- مستشار تحرير مجلة "قطر الندى": "البابا حقَّق المعادلة الصعبة بين الدين والفن. كان يقدِّم صورة إنسانية للدين بشكل عام، وأنا من المتابعين لمقاله الأسبوعي بجريدة وطني وأحتفظ ببعضها لأعيد قراءتها للمسات الجمالية الرائعة بها. والبابا جمع بين رجل الدين ورجل الشعر والإبداع، ونتج عنهما صياغة إبداعية جميلة للمفاهيم الروحية والأخلاقية. فما أجمل أن يكون رجل الدين رجل فن وإبداع يقدِّم صورة إنسانية بالقيم الروحية التي ينادي بها، وكثيرًا أكتب عن السلام والسكينة النفسية في مواجهة القلق والحيرة، ولعله أدرك هذه السكينة الآن، فهو امتداد جميل للبابا كيرلس السادس، ونتمنى أن من سيخلفه يكون امتدادًا له."
أما "حنان فكري"- الأديبة والصحفية بجريدة "وطني"- فقالت: "الطاقات الروحية للإنسان دائمًا ما تتبعها طاقات إبداعية متفردة ومتميزة في خط ما من الإبداعات. تجلَّى هذا في الطاقة الشعرية لدى قداسة البابا شنودة.. فلم يكن فقط رجل دين بل كان الشاعر.. المفكر.. مرهف الحس.. المبدع.. ذو القيمة والقامة الوطنية التي أبهرت المصريين جميعًا.. بل والعالم أجمع.. ظهر هذا جليًا في قصائده التي انعكس فيها حسه المرهف وحكمته الشديدة، ووضح فيها تأثيره على المتلقي لها بنفاذها إلى الوجدان والعقل فالتأثير على سلوك المتلقي..
وأشارت "فكري"، إلى أن للبابا تاريخ مع الشعر إذ حفظ آلاف الأبيات منه في المرحلة الثانوية، وليس أدل على ذلك من الامتحان الشفهي الذي تعرَّض له قداسته في الشعر، حيث طلب منه أحد الممتحنين أن يلقي شعرًا فسأله قداسة البابا- "نظير" آنذاك- في أي عصر؟ فرد الممتحن: وهل تحفظ لكل العصور؟ فأجاب: أجل. فقال الممتحن: في العصر الحديث. فقال البابا: ولأي شاعر؟ فسأله الممتحن: وهل تحفظ لكل الشعراء؟ فأجاب البابا: نعم.
ومن بواكير قصائده ما كتبه عن رحيل أمه، وكتبها في السادسة عشرة من عمره، حيث قال:
أحقًا كان لي أم فماتت أم أني خلقت بغير أم؟
رماني الله في الدنيا غريبًا أحلق في فضاءٍ مدلهم
وأسأل يا زماني أين حظي بأخت أو بخال أو بعم؟
واتسمت قصائد البابا بموسيقى المعانى والروح والوزن، وكان يحافظ على القوافي والوزن والازدواج والتشطير، وغير ذلك من أصول فن الشعر. كما اتسمت أشعاره بالسهولة والوضوح ويسر المعاني والألفاظ وعذوبة المفردات والتراكيب، ونأت أشعاره عن التكثيف اللغوي والاستعارات القائمة على الفهم المجازي أو التلاعب بالألفاظ، وهو ما يتسق مع شخصه ونقائه.
كان مبدعًا
ومن المبادئ المشرّفة والمستنيرة لقداسة البابا "شنودة" أنه لم يحرِّم الإبداع بل مارسه، فنجد معظم رجال الدين من المسيحيين أو المسلمين على حد سواء قد يبتعدون عن الإبداع أو بعض المتشددين منهم يحرمونه أو يعتبرونه إهدارًا للطاقة الروحية، أما هو فلم يفعل ذلك، بل مارسه وجعل منه ملجأ يهرب الإنسان إليه من أزماته وضيقاته.
ولم يعلِّق البابا يومًا ما على مبدع أو كفَّره أو خوَّنه.. لم يجد في كاتب شطط أو خيال يجرح العقيدة مهما سمع عن الفنون.. حتى الفنون البعيدة عن الشعر مثل الأفلام السينمائية لم تدخل الكنيسة طرفًا في تقاضي عنها بل كان المحامون الذين يسعون إلى الشهرة هم من يلهثون وراء ذلك بدون الرجوع إلى الكنيسة فيه.
مواقف شعرية حكاها البابا عن نفسه
* "كنت أُدعى إلى حفلات بكلية اللآداب، وكنت أعرف أن الطلبة يحبون الفكاهة، فكانت غالبية قصائدي من النوع الذي يضحكهم، بل كنت أقف على المنبر فيضحكون قبل أن أقول شيئًا لأنهم يتوقعون شيئًا مرحًا بالنسبة إليّ. كان عميد الكلية هو الأستاذ الدكتور حسن محمود حسن وهو رئيس قسم التاريخ، وكان منافسه في العمادة الأستاذ الدكتور محمد عوض محمد رئيس قسم الجغرافيا، فكانت فكاهاتي ضد قسم الجغرافيا مقبولة من أساتذة القسم ومقبولة أيضًا من الطلبة لأن الطلبة كانوا ينجحون في الجغرافيا بشق الأنفس. وأتذكر أنني كنت في السنة الأولي قلت في حفل الكلية زجلاً عنوانه حاجة غريبة بأدخلها بالعافية في مخي ما تدخلشي، أقصد عن الجغرافيا، ومن ضمنها:
حاجة غريبة بدخَّلها بالعافية في مخي ما تدخلشي
بنشوف في الأطلس أمريكا وألمانيا و بلاد الدوتشي
ما تقول لى بأي فوتوغرافيا وتقول ما تقول ما هاصدقشي
حاجة غريبة بدخَّلها بالعافية في مخي ما تدخلشي
ورياح مبلولة تجيب مية ورياح جافة متمطرشي."
* "فى حفلة تكريم للعميد قلت شيئًا من الشعر الفكاهي، قلت:
يا ما نفسي شهر واحد بس مش عايزه يزيد
يعملوني فيه عميد أو حتى نائب للعميد
كنت أعمل للسكاشن كلها ترتيب جديد
كنت أخلي الشخص يتخرج تقول زي الحديد
كنت أمشي الشخص منكم ع العجين ما يلخبطوش
كنت ألغي قسم جغرافية ومش ناقصين مضايقة
متنا من كتر المذاكرة ومش لاقيين ذاكرتنا حايقة
من غير الجغرافية تبقى دراسة الكلية رايقة
مش ظريف الاقتراح ده يخليكم ما تسقطوش
بس أنا يا خسارة عايش وسط ناس مايعبروش
لو كانوا يعرفوا مقداري كانوا مايسيبونيش
يعني لو ما كنتش أعرف المناخ ده استوائي أبقى جاهل
يعني لو ما كنتش أعرف الجبل ده التوائي أبقى جاهل
يعني لو ما كنتش أعرف بيليزوي وكيتيزوي وميليزوي أبقى جاهل
ده كلام فارغ صحيح ده مقرَّر مش مريح
دي مضايقة دي سماجة بس لما أبقى عميد".
* "مرة وقفت على منبر الكنيسة أتكلم، وبعدين القسيس وقف وقال لي كفاية على كده يا ابني، يمكن تستغربوا إزاي، كنت ساعتها في سنة رابعة ثانوي، اللي هيه زي الثقافة، وأحد زملائنا توفي واختاروني نيابة عن الطلبة أن أقول كلمة في الجنازة أو قصيدة، وأنا كنت متأثرًا، وقلت شعرًا مؤثرًا، أول بيت والستات بقوا يدمعوا، وتاني بيت وابتدوا يتنهنهوا، وتالت بيت- يتوقف عن السرد ويضحك كأنه ينظر المشهد بعينه ويستكمل- يبكوا بصوت عالي، وبعدين جالي القسيس وقالي كفاية كده يا ابني، فنزلت من علي المنبر. ودي العظة الوحيدة، الكلمة الوحيدة التي لم أكملها. وعرفت فيما بعد أني كنت صغيرًا، وأن الذي يقف علي المنبر في العزاء يجب أن يقول كلامًا يعزي الناس وليس كلامًا يثير مشاعر الموجودين.. أهو دروس في الحياة. طبعًا أنا مش فاكر الكلام الذي قلته، ولو فاكر مش هقوله أحسن تعيطوا، ولكن يعني."