حنان فكرى
وبعد العشاء أخذ الكأس، وبارك وشرب منه، وأعطى لهم قائلاً:” خذوا اشربوا منه، هذا هو دمي المسفوك عنكم لمغفرة الخطايا. كل مرة تأكلون من هذا الخبز، وتشربون من هذه الكأس، تبشرون بموتي، وتعترفون بقيامتي، تذكرونني” وهنا يسكن سر أسرار العقيدة المسيحية، المُسمى بالإفخارستيا، أو التناول، هنا عمق عقيدة الفداء على الصليب، وحياة الشركة التي أوصى المسيح تلاميذه إياها، وبارك وقسم وشكر ووزع، ولم تقل أي من الأناجيل الأربعة انه اعطاهم الخبز والخمر فى افواههم، أو استخدم ملعقة، أو منحهم يدا بيد.
لذلك فإن كل ما يدور حالياً من جدال حول الطريقة التي تتم بها ممارسة طقس التناول، فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية،- استخدام ملعقة واحدة لجميع المؤمنين- تسمى “الماستير”، وامكانية مساهمة ذلك فى نشر فيروس كورونا، يسىء للعقيدة، وللإيمان تحت دعوى حماية الإيمان المسلم إلينا، لست من المتخصصين فى العقيدة، لكنني أميل إلى إعمال العقل، والتفكير، والبحث فى التاريخ للوصول إلى اجابات عن أسئلة استفزت الناس حتى تنازعوا الإيمان فيما بينهم تحت دعوى الحرص عليه، وبإطلالة سريعة على التاريخ يمكننا حسم الفرق بين الطقس والعقيدة، وان تغيير الطقس لا يمكن ابدا ان يكون استهدافاً للعقيدة.
فالسر الكنسي – في الأصل – معناه نعمة غير منظورة نحصل عليها بممارسة طقس ظاهر ذي علاقة بها على يد كاهن مُشرطن (شرعى). وأسرار الكنيسة جاءت فى الكتاب المقدس بمعنى مواهب ولها علامات تشير إلى أمور مقدسة غير منظورة، – وسر الإفخارستيا أحد الأسرار المقدسة، ويُسمى سر الشكر – طبقاً للأرشيد ياكون حبيب جرجس- ما سبق يعني أن النعمة مرتبطة بالإيمان والعقيدة، وليس بطريقة ممارستهما، لأن طريقة الممارسة تتغير طبقاً لكل ظرف وزمان، ففي القديم كانت الكنيسة تسلم المؤمنين التناول فى أياديهم – طبقا لكتاب قوانين الرسل الباب 35- حتى تغيرت قوانين الكنسية بسبب احتفاظ البعض باللقمة والعودة بها الى منازلهم، ولأن العقيدة أن اللقمة والخمر جسد ودم حي، لا ينبغي أبدا التفريط فيهما. قررت الكنيسة منع هذا الأمر تماماً، وهو ما يثبت أن ممارسته من عدمها لا تمس العقيدة، هذا اذا اقتضت الظروف.
في يسر، وبساطة ايمانية، أعلن عدداً من الطوائف المسيحية– السريان والكلدان- تغيير طريقة التناول لتكون يدا بيد حرصاً على سلامة الشعب، إلا أن الكنيسة القبطية الإرثوذكسية التزمت الصمت، مع الاعلان عن بعض احتياطات الأمان دون التعرض لموضوع “الماستير”، الأمر الذى يدفع للحيرة، فبينما يدعونا الكتاب المقدس للعمل بالروح والابتعاد عن الحرف قائلاً:” “الَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ. لاَ الْحَرْفِ بَلِ الرُّوحِ. لأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي.” (2 كو 3: 6) نجد البعض يدفع تيار الاصلاح داخل الكنيسة للانضياع للحرف، بسبب الصوت العالي والاتهامات الجاهزة الملفقة بالهرطقة، اذا ما طرأ طارىء.
وبالرغم من أن الكنيسة القبطية لم تعلن رسميا موقفها من التناول بالماستير من عدمه، وجدنا عددا من رجال الدين المسيحي، تتراوح رتبهم، ما بين قساوسة وأساقفة، أدلوا بتصريحات تجافي ما فعلته سائر الطوائف الارثوذكسية، معبرين عن موقفهم الشخصي، فنجد على سبيل المثال انبا رافائيل خرج على الفضائية القبطية “سى تى فى ” ليقول: “إحنا طبعا نؤمن أن سر التناول هو سر الحياة، وهو الشافى من مرض الخطية، وأمراض الجسد والنفس والروح، ارجو أن نقترب الى سر التناول بهيبة مش بفحص علمى”.
وأشار الأسقف العام لكنائس وسط القاهرة إلى أنه يجب على المصريين أن يفهموا أن العالم تعرض قبل ذلك للعديد من الأوبئة والأمراض مثل “الكوليرا والطاعون” ولم يكن فى ذلك الوقت وسائل صحية وطبية متقدمة كما هو الحال فى عصرنا الحالى، ومع ذلك لم نسمع فى كل تاريخ الكنيسة أن أشخاص ماتوا نتيجة التناول، فالمفروض أن نقترب من هذا السر بمنتهى الهيبة، ومحدش يشكك فيه”.
وأضاف الأنبا رافائيل: “يوجد وسائل أخرى ينتقل بها الفيروس، وأنبه أن نكف عن الأحضان والقبلات خصوصا فى الفترة دى لغاية ما الوباء ده ينتهى”، متابعا: “عادة الفيروسات بتبقى ضعيفة جدًا جدًا، وأعنف فيروس بيبقى ضعيف أول ما يخش جسم الإنسان بيتمكن منه، لكن طول ما هو بره ضعيف، ممكن الهواء أحيانا يقتل بعض الفيروسات، الحرارة تقتلها، الليمونة ممكن تقتلها، عشان كده أرجو أننا ما ننزعجش أوى، فيروس كورونا صحيح حاجة وحشة بس مش للدرجة دى”.
وأضاف الأسقف العام لكنائس وسط القاهرة: “يجب أن نتخذ كل الاحتياطيات اللازمة للوقاية من الفيروس خصوصا الأحضان والقبلات والتى تحدث بشكل كبير بين السيدات خصوصا فى المناسبات المختلفة، كل الإجراءات الصحية تتعمل، والواحد يأخد باله من كل حاجة بس ما تهوبش ناحية سر التناول”.!!
ومثل أى شخص غير متخصص بدأت ابحث فى الكتب بعد اطلاعي على تلك التصريحات، لأجد أن ما سبق لا يمكن اعتماده كدليل على امان استخدام “الماستير ” فى عدم نقل العدوى، فما سبق مجرد كلام مرسل، بغير أدلة تاريخية، وليس لدينا ادلة تاريخية دامغة على ما فعلته الكنائس من اجراءات احترازية اثناء تفشى الكوليرا والطاعون، ومن لديه فليخرج علينا بها حتى نعلم. ولا علاقة له بالايمان فنحن نتناول جسد المسيح ودمه لمغفرة الخطايا واسقام الروح، ونثق فيه، وهو امر لا يمت بصلة لانعدام الإيمان اذا ما طالبنا، بتغيير طريقة التناول احترازيا من كورونا، فدم المسيح الشافي، لم يمنع المرضى من الذهاب للأطباء، والبحث عن الدواء فى اقصى الأرض، ومنهم الأساقفة والرهبان،الذين سافروا مراراً وتكراراً الي الغرب للعلاج، وإلا لإكتفي المرضى منهم بالتناول ولم يلجأوا للطب، الذى هو هبة ربانية من الله للبشرية لحمايتها.ولترك المؤمنين الأمراض ترعي فى اجسادهم مكتفين بالتناول، فالأصل فى التناول هو غفران الخطايا.
ألم تكن كافة الكنائس الأخرى من الموارنة والسريان الأرثوذكس الذين استجابوا للعلم جزءً من المؤمنين ايضاً، فكيف نسعي لفكرة التقريب بين الطوائف ونحن نتمسك بالملعقة، فى حين ان الكنيسة الكاثوليكية، تمارس طقس التناول من خلال وضع القربان في الخمر ثم وضعه مباشرة في فم المصلي دون استخدام الملاعق وأواني المذبح.اليسوا مؤمنين بالأسرار المقدسة مثل الأرثوذكس تماماً؟!فهل اخطأوا؟! اليسوا مسيحيين مثلنا؟ هل وقع اولئك الذين استجابوا للظرف الراهن فى التجديف مثلاً؟! ألا يمكننا التعامل الموضوعي مع الامور الكنسية للوصول الى التكامل بين عناية الله والعلم الذي هو نعمة من الله أيضاً؟”.
هذه هي المرونة التي أفهمها حينما استقبل كلمة الله، فالتمسك بالحرف يقتل كما يقول الكتاب، بل انه قد يتسبب فى انقطاع المؤمنين عن ممارسة سر التناول، وبذبلك يكون التشبث بالحرف مصدر زعزعة للإيمان وليس تثبيتاً له.
“اعلم ان البعض سيصف هذه السطور بالهرطقة، وسيكفر مؤيديها، وسندخل دوامة عنيفة مع من يَدَعون أنهم حماة للأيمان، مع ان الله قادر ان يحمي إيمانه بنفسه، ولا يحتاج لوكلاء على الأرض لحمايته، وإلا لكانت افعال اولئك المدعين اتهاماً لذات الله بالعجز عن حماية الوهيته.
اعلم ان الفرقاء لن يحتمعوا ابداً ما دامت هناك فرقاً وشللاً، وجماعات ومريدين لكل رأس فريق منها، لكن ألا ينبغي ان تخرجوا من هذه الدوامة وتكفوا عن الجدال حول الملعقة وتخطيئ الطوائف الأخرى، حتي تكون لكم القوة والجرأة التي تنتقدون بها المكفراتية والمتطرفين من الأديان الأخري؟! فالكتاب يقولها صريحة فى انجيل متي :” “يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلًا الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!” (مت 7: 5)