عاطف بشاي
نحن شعب التناقضات.. والتناقض هو ركيزة الدراما الكوميدية.. وإن لم يكن هو الركيزة الأساسية فى صناعة الضحك الذى يشمل أنواع الكوميديا المختلفة من «الفارس» مرورًا بالكوميديا «الموضوع» وكوميديا «الفكرة» وكوميديا «الأنماط» وصولًا إلى أرقى أنواع الكوميديا وهى الكوميديا السوداء.. التى هى مزيج متجانس من التراجيديا والكوميديا.. حيث تختلط الدموع بالضحكات.. والعاطفى بالعقلى.. والمعقول باللامعقول.. والمنطقى بغير المنطقى.. والحقيقة أن كتاب الكوميديا فى بلادنا يعانون من أزمة مستحكمة تزداد تصاعدًا ورسوخًا حقبة إثر حقبة، بل يوما بعد يوم.. فتصل هذه الأزمة بتفوق كاسح لمفارقات الواقع الاجتماعى والسياسى عندنا على المفارقات التى يؤلفها صناع الكوميديا من مؤلفين وكتاب سيناريو وحوار.. فهى فى معظم الأحوال أكثر غرابة ولا معقولية وعبثًا من خيال مؤلفى الكوميديا.. ومبالغات رسامى الكاريكاتير.
والمفارقة التراجيكوميدية التى عبرت عن نفسها بصورة صارخة تبعث على السخرية والأسى فى آن واحد هى تلك الحملة الضارية التى اشتعلت من خلال وسائل الاتصال الجماعى الخاصة بمقاطعة أعمال «محمد رمضان» الممثل والمغنى فى أثر قرار الفنان «هانى شاكر» نقيب المهن الموسيقية، بمنع ظهوره فى المهرجانات الغنائية، فكان أول رد فعل متناقض من دعوة المقاطعة، وقرار النقيب ما صدر عن التليفزيون المصرى بالاحتفال بهذا المغنى الممثل فى استضافته على الشاشة الصغيرة فى برنامج (توك شو) مع بادرة التطوير المزعوم للقنوات التليفزيونية المحلية الوطنية التى تمثل توجهات الدولة ودعم القوى الإعلامية الناعمة لحركة النهضة المباركة والتى انتظرناها طويلًا لإنقاذ ماسبيرو من ردته المؤسفة، وتخلف محتوى ما يصدر عنه من رسائل يفترض أن تكون داعمة لعودته المأمولة مزدهرًا ومتقدمًا ومستنيرًا ورائدًا.
إن المقارنة بين شاشة تنويرية، حينما كان ماسبيرو عملاقًا منذ بداياته فى ستينات القرن الماضى- والشاهد على ذلك قناة (ماسبيرو زمان) التى تبث إرسالها الآن- وبينها حالها الآن، هى مقارنة صارخة.. ومفارقة مذهلة.. ومناظرة بين حالتين وعالمين ومناخين مهينة لنا ولعصرنا.
إن الشاشة التنويرية تلك كانت تستضيف برامجها مفكرين وأدباء عمالقة؛ طه حسين وعباس العقاد ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوى وإعلاميين كبارا يحاورون فنانين روادا مثل يوسف وهبى ويوسف شاهين وفاتن حمامة وسعاد حسنى ومحمد عبد الوهاب وصلاح طاهر، هؤلاء الإعلاميون والإعلاميات مثل حمدى قنديل وليلى رستم وطارق حبيب وسلوى حجازى وأمانى ناشد، يدركون جيدًا رسالتهم الإعلامية.. محتواها وأهدافها وحدودها وتأثيرها على المتلقى.. أما الدراما فكانت متميزة تعالج مشاكل الواقع الاجتماعى وتلقى الضوء على قضايا مجتمع يهفو إلى الرقى والتقدم دون إسفاف أو ابتذال.
لكن وللأسف فإن الذى ولد عملاقًا تقزم شكلًا وموضوعًا.. الواجهة الجميلة البراقة التى تشهد ببراعة التصميم لمهندس معمارى عبقرى صارت صورة تراثية لا وجود لها إلا فى فيلم سعاد حسنى الشهير (صغيرة على الحب) أيام كانت المدارس الابتدائية والإعدادية تصطحب التلاميذ فى رحلات سياحية إلى المبنى ليشيدوا فى موضوعات التعبير بجماله ورونقه وشموخ وعظمة هذا الاختراع الحديث. إنه الآن يئن من آثار تهدمات وأطلية قديمة كئيبة.. وتشوهات غارقة فى الأتربة التى تعلو نوافذ مهشمة وقذرة.. وفى الداخل أستديوهات تبكى وتنتحب من فقر الديكورات والمقاعد وضعف الإمكانيات.. تبث برامج هزيلة لا خيال فيها ولا ابتكار.. ومذيعون ومذيعات يسألون الضيف نفس الأسئلة ويجيب نفس الأجوبة التى أتحفوه بها عشرات المرات التى تمت استضافته فيها طوال سنوات عديدة.. وإذا حاول أن يبوح مباغتًا بتصريحات يشتم منها أنه سيتجاوز ما يرونه خطوطًا حمراء بينما يراه هو حقًا إنسانيًا من حقوق التعبير التى كفلها الدستور.. ما يلبث أن يتراجع مؤثرًا السلامة وهو يرصد نظرات المذيع أو المذيعة المذعورة.. فيغمره إحساس بالشفقة والأسف ويغادر الإستديو دون أن يطرح رأيًا مختلفًا أو وجهة نظر لها قيمة.
أما الدراما فحدث ولا حرج.. حيث تداهمنا مسلسلات رمضان كل عام بخليط زاعق ومتخلف من شخصيات منحرفة وشاذة وسوقية ومتدنية تعج بالمجرمين والساقطات والأفاقين والمدمنين والعاطلين.. والتى تنطق بالبذاءات وفاحش القول والسلوك بمباشرة وفجاجة دون حياء أو مواربة.
وليس هناك اختلاف يذكر بين المسلسلات من عام لآخر.. إن لم يكن تراجعًا ذميمًا فى المستوى الفكرى وقيمة وأهمية مضمون الأعمال الدرامية وأهميتها، فالملاحظة العامة أن جيل المؤلفين الشباب الذين يسيطرون سيطرة شبه كاملة على الخريطة الرمضانية فى الأعوام الأخيرة ليس لديهم تصورات واضحة عن الواقع الاجتماعى والسياسى الذى نعيشه.. فالموضوعات قديمة ومستهلكة يغلب عليها الفجاجة.. والحوار الدرامى تسيطر عليه لغة جديدة فاحشة وقبيحة تغرق تقريبًا كل المسلسلات.
فسلام عليك أيها الفن فى الزمن الجميل.
Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم