محمد صلاح البدرى
لا أذكر تحديداً متى واجهت والدى رحمه الله للمرة الأولى أنى لا أحب العظيمة فايزة أحمد، التى لا يستمع إلا لها فى السيارة.. لم أكن قد تجاوزت العاشرة بكل تأكيد.. ولم تكن خامة الصوت أو قوته أو حتى جمال الألحان تهمنى بقدر ما كان يهمنى الإيقاع السريع و«الرتم» المنتظم الذى كان يميز أغنيات تلك الحقبة.. التى كان يتزعمها دون منازع ذلك الشاب الليبى القصير الذى يدعى «حميد الشاعرى».. جيل كامل تمكن ذلك الشاعرى من فرض بصمته عليه.. حتى إنك كنت لا تضمن نجاح عمل لأحد هؤلاء المطربين إلا إذا وضعت اسم حميد الشاعرى عليه بأى شكل.. أغنية مشتركة.. لحن.. توزيع.. أى شىء المهم أن يكون موجوداً..!
كان الصدام الأول حين أمسكت بشريط كاسيت لمطرب شاب يدعى «إيهاب توفيق» وطلبت منه أن نسمعه بدلاً من فايزة أحمد.. تناول أبى منى ذلك الشريط ووضعه فى مسجل السيارة.. لينبعث منه صوت المطرب بإحدى أغنياته التى كانت تعتمد على كلمة يتم تكرارها بشكل منتظم.. لم تكن الأغنية تحمل من الكلمات ما يبدو متناسقاً ليكون جملة مفيدة.. لقد كانت مجموعة من الكلمات تم رصها بجوار بعضها لتناسب اللحن الذى يبدو أنه قد وضع أولاً ثم تمت كتابة الكلمات.. لم تمض أكثر من دقيقة واحدة.. حتى أطفأ أبى الكاسيت بشكل عصبى.. قبل أن ينفجر بوابل من النقد على الاقتراح والأغنية.. وعلى هذا النوع من الفن «الردىء» من وجهة نظره.. ومتحسراً على عظماء المطربين من زمن الفن الجميل أمثال عبدالوهاب وأم كلثوم!!.
ثلاثون عاماً مرت على هذه الواقعة وما زلت أذكر تفاصيلها جيداً.. ليس لأننى اقتنعت بوجهة نظره.. ولكن لأننى عاصرت نجاح إيهاب توفيق الساحق ومعه كل هذا الجيل من المطربين الذين عانوا من اعتراف الناس بهم فى البداية.. قبل أن يتسيدوا الساحة عبر عقدين كاملين.. بالأمس أثار انتباهى اسم تردد كثيراً فى وسائل الإعلام ومواقع التواصل.. اسم «حسن شاكوش».. يقولون إنه مطرب ناجح للغاية.. وإنه يمتلك أغنية حصلت على مركز متقدم من مرات الاستماع على موقع ساوند كلاود..!!
الاسم نفسه يحمل إيحاء عنيفاً للغاية لا ينفصل عن إيقاع هذا النوع من الأغانى التى يدعونها «مهرجانات».. وهو فعل لا ينتمى للغناء بأى حال.. فقط هو حالة عنيفة من الصراخ والقفز على إيقاع ثابت.. تتداخل معه مجموعة من المؤثرات التى يصنعها مهندس الصوت.. والتى تجعل من صوت المطرب آلة جديدة!!
أعترف أن تكرار الاسم الذى صار «تريند» على مواقع التواصل الاجتماعى أثار فضولى لسماع أغنيته التى يتحدثون عنها.. لم أبذل جهداً لأجدها على موقع اليوتيوب الشهير فى لحظات معدودة.. ولم تكد الأغنية تبدأ فإذا بابنتى التى تبلغ أربعة عشر عاماً تخرج من حجرتها مسرعة وهى تسألنى بانبهار ممزوج بالسعادة: هل تستمع إلى «شاكوش» يا أبى؟؟
أجبت عن سؤالها باستنكار: وهل تعرفينه؟؟
- ومن الذى لا يعرفه؟؟ إنه مشهور للغاية.. هل سمعته مع فلان؟؟ وأخذت تسرد لى العديد من الأغنيات التى لم أسمع بها من قبل.. قبل أن تبدأ فى ترديد كلمات الأغنية التى تخرج من هاتفى!!
لقد أدركت أن الأمر تجاوز مرحلة «التريند».. وأن علىّ أن أتقبل هذا النوع من الغناء باعتباره صار موجوداً.. حتى وإن رفضته أو استنكرته.. سنسمع عن الكثيرين من أمثال هذا «الشاكوش».. وسنرفضهم ونستقبل ما يقدمونه بوابل من النقد دون أن نتمكن من إنكار وجودهم.. وسنظل نتحسر على عظماء المطربين من زمن الفن الجميل.. أمثال حميد الشاعرى وإيهاب توفيق!!!
نقلا عن الوطن