بقلم – روماني صبري
يفتتح المخرج الإيراني "سهراب شهيد" فيلمه "حدث بسيط" بلقطة واسعة لبطله الصغير وهو يسير بكيفية طبيعية بالقرب من قضبان إحدى محطات السكك الحديدية متأبطا حقيبته في طريقه إلى مدرسته، وفجأة يعنفه عامل المحطة الجالس على الطرف الأخر، فيأخذ يركض فازعا حتى يجتاز أدراج كوبري المشاة، لتبدأ بعدها المهزلة، إذ نرى الصغير وكأنه اقترف جرما رغم انه من الواضح يغطس في ضعفا أجبر عليه كولادته إلى جانب افتقاده لذة الحياة، كونه يعيش داخل دائرة من الخوف تسمى مجتمع الفقراء .
يصل الصغير إلى فصله ويطلب المعلم من احد التلاميذ قراءة قصة مقررة عليهم تتحدث عن غراب اخذ ينعق من الألم على فرع شجرة، فراحت الشجرة تواسيه قائلة : أنت تعيش داخل العالم يا صديقي، حيث يسكن الألم أولا وبعده تعرفنا السعادة، أنظر إلى فرعي .. بات يابسا وخلى من الأوراق، لكن رغم ذلك لازال ممتزجا بي"، لتتسلل الراحة بقلب الغراب فاختص الشجرة ": نحن نتشارك الألم، أن لم أكن أزعجك، اسمحي لي أن ابني عش علي هذا الفرع، لترد عليه:" نعم يحق لك ذلك أن ذلك سيأتي بالفرح والسرور لي.. صديقي أنت تمتلك جناحين وتستطيع أن تطير بهما وتحضر لي عائدا بأخبار الجبال.. أتعلم أن اكبر أمنياتي أن أعرف ما يحدث وراء الجبال، أنا متأكدة أنه هنالك ينابيع باردة، فالأشجار هناك ليست عطشة مثلي ، فأنا كم أحن لنهر يمكنه أن يروي ظمئي."
تترجم هذه القصة معاناة بطلنا الصغير قليل الفهم والإدراك، ذلك الذي يتألم ويثور على مجتمعه صامتا، دون أن يصر بأسنانه حنقا، وقلة إدراكه مردها إلى مجتمعه وفقره، وهذا ما برع سهراب في التعبير عنه سينمائيا ، ولكن لماذا يفتقد الذكاء رغم أن الكثير من زملاءه يعانون مثله ويتمتعون بوافر الذكاء إلى جانب قيامهم بلعب الكرة وممارسة حياتهم بكيفية طبيعية كما يدعي هو ذلك؟! .. في الحقيقة ليس مرد ذلك انه يعاني خبثا أو مرضا عقلي ، هو يراقب مجتمعه الرديء دون أن يشكو منه بوعي بالغ لا يستند إلى استدلالات منطقية صاغها ابرز مفكرين إيران، كونه يقرأ فقط ليؤدي واجبه المدرسي، لذلك لا علاقة للغباء بالأمر، ربما أن تكيف مع مجتمعه الدميم لكان دفع باسمه إلى واجهة المتفوقين في الفصل، لكنه يشرد كثيرا إذ يأخذ يفكر في كل شيء دون أن يجد رفيق يحكي له معاناته كما فعل الغراب وقص ما الم به للشجرة .
لطالما نجح سهراب في كشف حياة هؤلاء الذين يعانون القحط والفقر والمرض ورغم ذلك ينجبون حتى تستمر المعاناة والوحشة داخل المجتمعات المظلمة تلك التي تقدس الروتين وفيها تداس كرامة الإنسان من قبل أسرته قبل الحكومات، فيستفزون أوطانهم برضوخهم للذل وتقبل المعاناة، فإذا أردت أن تهين طفلك أنجبه وأنت تعاني حتى تتفاخر به أمام أصدقاءك في البار.. يولد بطل حدث بسيط في أحضان عائلة شديدة الفقر فيجد نفسه يعيش داخل غرفة واحدة تشبه السجن تفتقد السلع المعمرة الأساسية، وتكسب قوت يومها من صيد السمك وبيعه للتجار، وسرعان ما يستغله والده السكير في حمل و بيع السمك، وحين يقترف خطأ يجني مقابله الصفعات، تعاني والدته من مرضا في الصدر ورغم ذلك نراها تنكب يوميا على القيام بواجباتها المنزلية، وحين تنتهي ترقد ملتحفة بغطاء لاهثة إذ يستفحل داخلها المرض جراء المجهود .
يغطس الصغير في كابوس الروتين ، حيث يذهب إلى مدرسته في الصباح، وبعدما ينتهي يومه الدراسي يأخذ يغالي في المشي بأمل الوصول إلى البحر مبكرا حتى لا ينتهي والده من الصيد فيصل إلى الشاطئ ولا يجده فينهره، وحين يهبط المساء يشتري الخبز ويذهب للغرفة الدميمة يتعشى ويقوم بواجباته المدرسية لينهي يومه بالنوم مكتفيا بهذا القدر من الذل ... يحاول معلمه مواساته في أحد المشاهد ، ولكن دعونا نعترف أن جميع التعزيات طيبة وكريهة وتختلف باختلاف معاناة الإنسان، هذا التفسير يبدو حسنا...انه في النهاية يظل معلما لا صديقا .. هكذا يرصد سهراب أحداث بطل فيلمه اليومية التي تتكرر غير مكترث بحبكة درامية تجارية، مع الاحترام للحبكات التجارية طبعا.
لطالما أراد سهراب أن تطغى الواقعية على أفلامه بشكل لافت ومباشر، في احد المشاهد تشن وزارة الصحة الإيرانية حملة تطعيم، فنجد الممرضات يشرعن في تطعيم التلاميذ بزيهن الأبيض القصير ، إذ أنتج الفيلم فترة حكم شاة إيران محمد رضا بهلوي، قبل الثورة الإيرانية الإسلامية التي استولت على حكم البلاد لتنشر التطرف والتعصب فضلا عن تكفيرها السينما وسماحها فيما بعد بصناعة الأفلام التي تمجد المرشد الإيراني وتشوه سمعة الشاة، وهو ما يمكن أن نسميه بسينما السلطان الكريهة، لذلك بات الفيلم اليوم مرجعا كبيرا للمقارنة بين العهدين، بالطبع كان يوجد خلل في نظام الشاة إلا انه لم يقمع الفنانين ويقوض حريتهم كما الحال اليوم، فمحسن مخملباف المخرج الإيراني الشهير الذي رحب بالثورة الإسلامية فر من إيران ويعيش الآن في فرنسا حتى لا يقتل كونه قرر صنع أفلام بعيدة عن رغبة الحاكم.
أقول عامدا أن الثورة الإسلامية إنما زادت الفقراء تخلفا وان الفقر لطالما أنجب الدمامة، ومن الحق أيضا أن اعترف بذلك وهي في النهاية وجهات نظر من السهل معارضتها وألقاها في سلة المهملات وأشدها قذارة، ويحيل إلي! إننا في مصر نعاني من هؤلاء الأصوليين كون الملايين يحبونهم ويصدقونهم ويكنون لهم أشد الاحترام لاسيما عندما يباركون ويمدحون الفقراء ويكرمون أبناءهم على شجاعتهم وتحملهم فيلقون عليهم الهدايا علنا في المناسبات أمام الكاميرات حتى يستمر الوضع كما هو عليه، فيبكون مع انتهاء أوقات المنح ولا يجدون أيضا الشجرة التي حدثنا عنها سهراب في بداية فيلمه.