عبد المنعم سعيد
خلال يومى ٣ و٤ فبراير الجارى شاركت فى «التجمع الإعلامى العربى من أجل الأخوة الإنسانية» الذى جرى فى مدينة أبوظبى بدولة الإمارات العربية المتحدة التى باتت ملتقى للبحث والتداول فيما يخص القضايا الاستراتيجية الكبرى التى تهم العالم العربى. كان الاجتماع نوعًا من المتابعة لوثيقة «الأخوة الإنسانية» التى تم توقيعها قبل عام فى ٤ فبراير ٢٠١٩ من قبل الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر، رئيس مجلس حكماء المسلمين، وقداسة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان. كانت المناسبة آنذاك حدثًا دوليًّا كبيرًا ليس فقط بحكم الشخصيات التى شاركت فيه من كافة الأديان والمذاهب والألوان، وإنما لأن العالم كان يمر بفترة شهدت الكثير مما بدا شكلا من أشكال المواجهة ما بين العالم فى ناحية، والإسلام والمسلمين فى ناحية أخرى. وكان الحضور الإعلامى هذه المرة من كافة الدول العربية نوعًا من حشد الطاقات الإعلامية العربية لمتابعة ما جرى من تقدم منذ التوقيع فى جانب، ودعوة الإعلام ذاته لكى يقوم بدوره فى هذه المهمة فى جانب آخر. وجاءت مشاركتى فى ورشة العمل الرابعة التى عقدت تحت عنوان المقال وفيها دعوة إلى أمرين: أولهما أنه لا بد من «تحرير» المصطلحات المتداولة، مثل المستقبل، والأخوة الإنسانية والإعلام العربى. فرغم شيوع هذه المصطلحات فإنها كثيرا ما تختلط أمورها وتتعدد معانيها وتختلف مقاصدها. وثانيهما هو ماذا يستطيع الإعلام العربى أن يفعل إزاء الإشكاليات التى يواجهها عندما يتولى موضوع الأخوة بين البشر. والمستقبل ضمن هذا الإطار لا يمكن أن يكون مجرد امتداد للزمن نحو ما هو قادم، وإنما هو أكثر من ذلك يعبر عن نتيجة ما فعلناه فى الماضى، ونفعله الآن؛ وفى كل الأحوال فإن المستقبل دائما يبدأ من اللحظة التى نعيش فيها.
وفى العموم ودون الغوص فى كثير من التفاصيل فإن هناك منظومتين من الأفكار تحددان نظرتنا إلى السنوات والعقود القادمة. الأولى مستمدة من الكتب المقدسة للأديان فى عمومها والتى تعتمد على أن «الخلق الإلهى» هو الذى أعطى للإنسانية صفتها العاقلة بين المخلوقات جميعا بحيث تخوض رحلتها فى الزمان ماضيا وحاضرا ومستقبلا بفعل الخير والتمسك بالحق وتجنب الشر وارتكاب الباطل. والثانية هى نظرية التطور التى أسس لها العالم تشارلز داروين والتى قامت على أساس من التطورات التى جرت على المخلوقات عبر ملايين السنين حتى انتهت إلى الإنسان كما نعرفه قبل عشرة آلاف عام، ومن وقتها وهو يتقدم من حالة إلى أخرى أكثر تقدمًا بفعل تطورات الطبيعة والتغيرات فى التكنولوجيا ووسائل الإنتاج. والأمر الجوهرى فى عملية التطور هذه هو أن البقاء والاستمرار والتقدم يتمثل فى عملية اختيار الأصلح الذى يكون أكثر قدرة على البقاء والتكيف مع ما يكون من تغيير. هذه النظرية جعلت الصراع، والتناقضات، بين الطبقات الاجتماعية أو الأمم الدولية، نوعًا من القاطرة التى تدفع الإنسانية إلى التقدم والرفعة بما تسببه من قفزات التقدم الفكرى والتكنولوجى.
وكما هو واضح فإن وثيقة «الأخوة الإنسانية» مستمدة من المنظومة الفكرية الأولى التى ترى أنه رغم ما يبدو من اختلافات بين الأديان فإن هناك مجموعة من المبادئ التى تجمعها، فهى تتمسك بقيم السلام، وتعتبر أن الحرية حق لكل إنسان، وأن العدل القائم على الرحمة هو السبيل إلى الحياة الكريمة، وأن الحوار ونشر ثقافة التسامح من شأنه احتواء كثير من المشكلات. وتقول الوثيقة «إننا نحن- المؤمنين بالله وبلقائه وبحسابه- ومن منطلق مسؤوليتنا الدينية والأدبية، وعبر هذه الوثيقة، نطالب أنفسنا وقادة العالم، وصناع السياسات الدولية والاقتصاد العالمى، بالعمل جديًّا على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام، والتدخل فورا لإيقاف سيل الدماء البريئة، ووقف ما يشهده العالم حاليًا من حروب وصراعات وتراجع مناخى وانحدار ثقافى وأخلاقى». والوثيقة هكذا من الناحية العملية ذات طبيعة مثالية تعنى نهاية الحروب «الصليبية» التاريخية بين أتباع الأديان من ناحية، والسعى نحو مواجهة التطرف والإرهاب النابع من أفكار دينية متطرفة من ناحية أخرى. ولا يقل مفهوم «الإعلام» تعقيدا عن مفهومى «المستقبل» و«الأخوة الإنسانية»، فهو يعنى نقل المعرفة بالشأن العام الذى يتميز عن «الشأن الخاص» بالشمول والاتساع لكى يأخذ فى نطاقه كل ما يهم الجمهور، ويشكل المفهومان الآخران جزءا من هذا الاهتمام. الإشكالية الكبرى هنا فى العصر الحالى أن العالم يتحرك تدريجيًّا من «العولمة» التى ترى العالم «قرية صغيرة» تتشابك مصالحها والتحديات التى تواجهها اقتصاديًّا وسياسيًّا وحتى مناخيًّا وتميل من ثم إلى الوحدات السياسية الكبيرة مثل الاتحاد الأوروبى، والاتفاقيات الدولية متعددة الأطراف مثل اتفاقية منظمة التجارة العالمية؛ إلى «الهوية»، حيث يتفتت العالم إلى دول «قومية» تضع هويتها دومًا فى المقدمة أو كما يقال «أمريكا أولًا» أو «بريطانيا أولًا» وليس العالم أو حتى الاتحاد الأوروبى.
ويصبح «الإعلام عربيًّا» عندما يكون ناطقًا باللغة العربية، وصادرًا فى دولة عربية، وقضيته هى «المحتوى» الذى يقوم على: «التحرير»، أى رصد الحقائق والمعلومات بدقة وموضوعية. و«التفسير»، أى تحليل المتغيرات التى تمثلها هذه الوقائع. و«التدبير»، أى النظر فى السياسات والإجراءات التى تصلح أحوال الناس. والمرحلة الراهنة فى الإعلام العربى تقتضى الاهتمام بالأمور التى تتعلق بالدولة الوطنية مجتمعًا وسلطة واحتكارا لشرعية استخدام السلاح والقوة العسكرية، وكذلك النظر فى أمور الأقليات والوحدة الوطنية، والتعامل مع «الآخر» فى عمومه بالداخل والخارج. وبينما يكون التسامح والعمل بالمعروف نوعًا من بناء الجسور بين جماعات تمايزت، فإن اللامركزية بدرجاتها المختلفة من الإدارة المحلية وحتى الحكم المحلى والفيدرالية وسائل التعبير السياسى حسب درجات اختلاف الهوية والتقاليد الخاصة. ولكن «الترتيبات» الوطنية لا تكفى لكى تكون حلًا يسانده الإعلام، ويسعى إلى إنفاذه حفاظًا على الوحدة الوطنية، فلعل التوافق يصير ضروريًّا حول مشروع وطنى كبير لتجاوز عثرات الماضى وآثاره بالتخلف والتراجع.
المشروع الوطنى فى كثير من الأحيان يكون موطئ التفاف وجذب للوحدة الوطنية التى يلعب الإعلام دورا هاما فى إدارة الحوار والنقاش حولها، حيث يتم تحديد الأولويات، والعقبات التى تقف أمامها، والتكلفة الضرورية للتعامل مع معضلاتها. هنا فإن تحرير الفكر الدينى والوطنى، والقومى أيضا، من الجمود والسلفية والتخلف- يعطى دفعة كبيرة للمشروع المشترك إذا ما صاحبه العلم والتكنولوجيا والمسح للثروة القومية التى سوف تحل محل إدارة الفقر فى جلب الخيال العام. هنا فإن إدارة الإعلام هنا ليست خطبًا بليغة، أو أغانى حماسية، وإنما اشتباك الآراء المختلفة حول ما يحمى ويغنى ويفيد.
المشروع الوطنى فى كثير من الأحيان يكون موطئ التفاف وجذب للوحدة الوطنية التى يلعب الإعلام دورا هاما فى إدارة الحوار والنقاش حولها، حيث يتم تحديد الأولويات، والعقبات التى تقف أمامها.
نقلا عن المصرى اليوم