أصدر مرصد الأزهر لمكافحة التطرف تقريرا، اليوم الاثنين، تحت عنوان "ذئاب داعش" وهجوم لندن الأخير، وقال: طرح مقتل "أبو بكر البغدادي" زعيم تنظيم داعش الإرهابي، في أكتوبر 2019، العديد من التساؤلات حول مصير "داعش" وردود الأفعال المتوقعة من قبل عناصر التنظيم ومدى تأثير ذلك في مؤشر العمليات الإرهابية التي يقوم بها، لكن القناعة الرئيسية لدى أغلب المسئولين والمتخصصين في شئون الجماعات المتطرفة، تؤكد أن خطر "داعش" لا يزال قائمًا، وهو ما تجسد قبل أيام في هجوم لندن.

فـ "الذئاب المنفردة" الموالية لتنظيم "داعش" الإرهابي التي حذّر منها مرصد الأزهر مرارًا وتكرارًا في تقاريره وإصداراته، كَشَرت عن أنيابها في الهجوم الأخير الذي وقع يوم الأحد 2 فبراير في منطقة ستريتهام جنوب لندن، ونفذه المدعو "سوديش أمان" البالغ 20 عامًا، الذي قام بطعن عشوائي بأحد المتاجر وفي الشارع أيضًا.
 
وتابع: تعد "الذئاب المنفردة" من أكثر آليات التنظيمات الإرهابية جَنْيًا للضحايا بأقل تكلفة، مع قدرتهم على اختراق الأماكن بسهولة مثلما فعل "أمان" باختياره لأحد المتاجر لتنفيذ عملية الطعن. وهذا ما أوضحته دراسة لـ "إلكسندر ميلاجرو ـ هيتشينس" بالشراكة مع "سيموس هيوز" لصالح برنامج علمي عن التطرف بجامعة "جورج واشنطن"، والتي أكدت تلقيهم لتدريبات عن بعد من قبل "مدربي الفضاء الإلكتروني" من خلال شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الرسائل المشفرة؛ لتطوير خطط الهجمات.
 
"سوديش أمان".. من هو؟
في أبريل 2018 لفت "أمان" انتباه شرطة مكافحة الإرهاب في بريطانيا بعد الاطلاع على منشوراته على تطبيق المراسلة "تليغرام" خاصة الصورة المنشورة لسكين وسلاحين ناريين على خلفية علم تنظيم داعش الإرهابي، إلى جانب مشاركته لمجلة "تنظيم القاعدة" عبر تطبيق "واتس آب" مع أفراد أسرته وحثه لأشقائه الصغار على التطرف والانضمام لـ "داعش".
 
ولم يتوقف تحرك "أمان" عند حدود أسرته بل قام بإرسال مقاطع فيديو لعمليات قطع رؤوس على يد عناصر "داعش" إلى صديقته ودعاها إلى قتل والديها ـ "الكافرين" كما وصفهم ـ، مؤكدًا لها مبايعته للتنظيم وتخطيطه لتنفيذ هجوم. وبعد إلقاء القبض عليه أقر بالتهم التي وُجهت له حول حيازة مستندات تضم معلومات إرهابية مثل كتاب عن فنون القتال بواسطة السكاكين إلى جانب توزيع منشورات إرهابية.
 
وفي ديسمبر من نفس العام، حُكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات وأربعة أشهر، وأمضى نصف مدته في سجن "بلمارش" المُخصص للمتهمين في قضايا إرهاب، وأطلقت الشرطة البريطانية سراح "أمان" في يناير الماضي بعد قضاء عقوبته، ووضعته تحت رقابة مشددة مع ارتدائه لحزام إلكتروني يحدد موقعه على مدى الساعة.
 
الهدف من الهجوم
بعد هذا لا عجب أن تتضمن أهداف حياته المذكورة بدفتر ملاحظاته عبارة "أتمنى الموت شهيدًا؛ بغية الوصول إلى الجنة"! فتفكير "أمان" انصب كُليًا وهو في مُقتَبَل عمره على هدف واحد ألا وهو "الموت شهيدًا" مثلما أعلن تنظيم "داعش" مرارًا وتكرارًا منذ نشأته في رسائله التي نشرها وبثها عبر منصاته الإعلامية؛ بهدف استقطاب الشباب تحت زعم دخول الجنة وتصويره لقتل الأبرياء بأنه عمل بطولي يسمى صاحبه بـ "الشهيد"! وهو بطبيعة الحال من الأفكار المغلوطة التي نفذت خلالها التنظيمات الإرهابية إلى عقول بعض الشباب وفنّدها مرصد الأزهر.
 
وفي سبيل هذا الهدف الذي حدده "أمان" لنفسه سعى إلى اكتساب كافة المعلومات التي تساعده على تحقيقه، وهو ما تمثّل في قراءته لكتاب عن فنون القتال بواسطة السكاكين. وهنا يجب التوقف قليلًا فقبل دخول "أمان" السجن كان تركيزه منصبًّا على دعوة المحيطين به ليسيروا على نفس فكره المتطرف مع حثهم على تنفيذ أعمال إرهابية إلى جانب شحذ عزيمتهم من خلال إرسال فيديوهات لعمليات تنظيم "داعش" الإرهابي وقراءة كل ما ينشر سواء من قبل "داعش" أو "القاعدة"، أي أن انتهاج هذا الفكر المتطرف لم يربطه بتنظيم معين في بادئ الأمر بل كان هدفه الأساسي "الموت شهيدًا لدخول الجنة"
.
لذا نجده بعد بحث وقراءة لكل ما يتوافق مع أهوائه وهدفه المحدد مسبقًا، يخبر صديقته عن مبايعته لـ "داعش"، وجاء قراره بعد أن وجدت رسائل التنظيم الإرهابي، القائمة على اقتطاع النصوص الدينية من سياقها الصحيح ونشر تفسيرات خاطئة للآيات القرآنية وبث فيديوهات للعمليات الإرهابية لإثارة الغرائز القتالية لدى ضعاف النفوس ممن لا يملكون علم صحيح، وتزيين جرائمه في نفوس الشباب خاصة من صغار السن، وقيامه بربط "الشهادة" بـ "دخول الجنة" في أغلب هذه الرسائل؛ الأمر الذي وجد صدى في نفس "أمان" لتوافقها مع أفكاره المُسبقة متناسيًا تمامًا ما حثنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه: "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم"، وقوله أيضًا: "المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه".
 
ومن الواضح هنا أن هذه التوجيهات النبوية لا تخص علاقات المسلمين ببعضهم فقط بل شاملة لكل مكونات المجتمع، فكلمة "الناس" يستفاد منها في العموم والإطلاق لخلوها من قيود الدين والمذهب وغيرهما.
 
أما النقطة الثانية التي يجب التوقف أمامها هو دور الفترة التي قضاها "سوديش أمان" في سجن "بلمارش" المُخصص للمتهمين في قضايا الإرهاب، على تحركاته على أرض الواقع بعد قضاء مدة عقوبته، فإن لم يتأثر "أمان" فكريًا بهذه الفترة لكونه دخل السجن مُهيأ فكريًا لارتكاب أفعال إرهابية/ إلا أن ما سمعه طوال فترة سجنه من قصص حول الجنة والشهادة والأعمال البطولية ـ كما يصفها التنظيم الإرهابي دومًا ـ وغيرها من أمور يُشكل عاملًا تحفيزيًا له.
وينادي مرصد الأزهر بضرورة وضع خطة متكاملة من قبل المؤسسات المعنية؛ لإعادة تأهيل المسجونين في قضايا الإرهاب لتهيأتهم فكريًا ونفسيًا واجتماعيًا ودينيًا قبل الخروج إلى المجتمع من جديد، أي مواجهة الفكر المتطرف بآخر أكثر اعتدالًا وتسامحًا مع تفنيد النقاط التي يستند عليها أولئك في أفكارهم المنحرفة عن النهج الصحيح.
 
ومن الملاحظات المهمة حول هجوم لندن الأخير، استخدام المُنفذ لـ "حزام ناسف مزيف" وهذا ليس بالأمر الجديد فقبل هذا الحادث بشهور قليلة وقع هجوم مماثل استخدم فيه حزام ناسف مزيف أيضًا، وهو ما يطرح تساؤلًا حول الهدف من ارتدائه! وبالنظر إلى فكر "أمان" نجد أن قراءاته العديدة في فنون القتال بالسكاكين وضعت قدمه على عدد من النقاط منها كيفية تفادي مقاومة الضحية عند الهجوم بالسكين إلى جانب وسائل إيقاع أكبر عدد من الضحايا خلال الهجوم؛ مما يوضح لنا السبب الحقيقي وراء هذا الحزام المزيف وهو إدخال الذعر في قلوب الناس ودفعهم للهرب وتقليل مقاومتهم له.
هجوم لندن والإسلاموفوبيا
 
ومن أبرز مخاطر الإرهاب تنامي ثقافة الكراهية ضد الإسلام والمسلمين وتأثير ذلك على الأوضاع الحياتية للمسلمين في المجتمعات الأوروبية، على الرغم من دعوة الإسلام إلى التعايش مع الآخر واحترام التعددية الدينية والثقافية والتعاون مع وجود الاختلاف الذي هو من قبيل التنوع لا التضاد.
 
ومع وقوع هجمات بين الحين والآخر في بريطانيا، ووفي غيرها من مناطق مختلفة من العالم، أصبح المسلون هناك في مرمى الاتهامات إلى جانب تعرضهم للتمييز والعنصرية، والأمر هنا ليس مقصورًا على تعامل المدنيين في بريطانيا فقط بل يمتد إلى كيفية تعامل السياسيين أيضًا، ففي وقت سابق كشفت دراسة مستقلة لمؤسسة "يوجوف" البريطانية المعنية باستطلاع الرأي العام عن وجود إشكالية حول "الإسلاموفوبيا" داخل حزب المحافظين الحاكم بالمملكة المتحدة، وهو يؤكد ما تداولته الصحف هناك عن قيام أكثر من 100 شخص يُرجح أنهم من الحزب الحاكم بنشر تعليقات عنصرية معادية للمسلمين عبر الإنترنت؛ الأمر الذي دفع المجلس الإسلامي البريطاني إلى تقديم شكوى إلى لجنة "المساواة وحقوق الإنسان" بعد تزايد مخاوف المسلمين.
 
كل هذا شَكَلَ عامل ضغط على المسلمين للعمل بشكلٍ مكثفٍ ومتواصلٍ لإبراز القيم الإسلامية السمحة أمام الجميع والمشاركة دومًا في الفعاليات المجتمعية؛ للحد من ظاهرة التمييز واستعادة ثقة البريطانيين وحتى لا يكونوا في موضع اتهام بعد هذه الهجمات الإرهابية.
وأخيرًا.
 
ما بين إطلاق نار وعمليات طعن ودهس وقعت خلال الفترة الأخيرة بشكلٍ متتابع، يمكن القول أن لندن من العواصم الأوروبية المستهدفة من قبل ما يطلق عليهم "الذئاب المنفردة" الذين تتزايد خطورتهم يومًا بعد آخر؛ لأسباب كثيرة لعل أبرزها قدرتهم على التحرك بسهولة على الأرض ودخول أماكن مُكتظة بالناس مما يساهم في رفع حصيلة ضحايا تلك العمليات الإرهابية وهو ما يسعى إليه "تنظيم داعش".
 
وهذا ما أكده مرصد الأزهر لمكافحة التطرف كثيرًا في تقاريره التي أشار فيها إلى خطورة "الذئاب المنفردة"؛ لكونها الورقة التي يحاول من خلالها التنظيم الإرهابي الذي يلفظ أنفاسه، إيصال رسالة مفادها "ما زلت موجودًا وأستطيع تنفيذ هجمات جديدة!"، إلى جانب سعيه للانتقام لمقتل زعيمه "أبو بكر البغدادي".