فاطمة ناعوت
أضحكتنا الكوميديا المصريةُ منذ نشأتها، وغسلتْ من الوجع قلوبَنا. المصرىُّ معجونٌ بماءِ الكوميديا منذ ضربَ بعصاه هذه الأرضَ الطيبة. عالج المصريون بالكوميديا مشاكلَهم، وسخروا من معضلاتٍ قَدَرية هائلة لا تعالجُها إلا معجزاتٌ من السماء. الكوميديا هى فنُّ تكبير الصغير وتصغير الكبير. تضخيمُ الضِّئال وتبسيطُ العواظم. الضحكُ والسخرية من المصائب، هما سلاحُنا ضدَّ المحن والنوازل. ولكن ليست كلُّ كوميديا راقيةً، وليس كلُّ ضحك عميقًا. الإضحاكُ سهلٌ، حين يكون مبتذلًا. ولكن الصعبَ جدًّا حين تخرجُ الضحكةُ من القلب بعدما تمرُّ على قناة العقل. تلك هى منحةُ ومَلَكةُ «لينين الرملى»، أهمّ وأخطر كاتب كوميديا عرفته مصرُ خلال نصف القرن الماضى، وصاحب «عصا شارلى شابلن الذهبية».
سافر «لينين» إلى السماء قبل يومين، وترك لنا تراثًا فنيًّا هائلًا، حفر اسمه فى سجلّ الخالدين. دخل بيوتَنا فى طفولتنا وصِبانا مع مسلسل: «هند والدكتور نعمان»، فاحتلَّ عقولَنا واستلبَ قلوبنا بقلمٍ رفيع وضع سِنَّه الحادَّ على أوجاعنا، ليجرحَ دون أن يسيلَ دمًا. الطفلةُ المليحة الذكية تمسك يدَ الجدِّ المنعزل عن العالم، لتقوده نحو الحياة وتجعله يُنصِتُ إلى إيقاع عالمٍ لم يره من قبل، فيبدأ قلبُه بالخفقان بعد مواتِه. ودخل بيوتَنا مع دراما: «شرارة» و«سطوحى»، ليجرح فينا صخرة الخرافة والتنمُّر بالآخرين ووصمهم بالشؤم والنحس والغباء، لنخرج من بين يدى دراماه أكثرَ نظافةً ونقاء وأكثر حبًّا واحترامًا للآخرين. وفى لقائه مع عظيم الإخراج «صلاح أبوسيف»، قدّم لنا «لينين الرملى» بانوراما الطمع البشرى و«بداية» الاحتكار وأظافر «الرأسمالية» المتوحشة، وكيف نشأت فوق الأرض، بمحض مقامرة صغيرة، لكى تحتكر ثرواتِ السماء وتذلّ المغلوبين على أمرهم فوق الأرض.
وأما لقاء مايسترو القلم «لينين»، مع مايسترو المسرح «صبحى»، فكان لقاء القمم الذى نحت لنا روائعَ خالداتٍ سوف تظلُّ عابرةً للزمان والمكان مهما مرّت السنون والعقود. دخل إلينا الثنائى «لينين/ صبحى» من بوابة المسرح ليهذّبا فينا اعوجاجات أرواحنا وأدران نفوسنا. علّمتنا «أنت حر» و«الهمجى» و«تخاريف» كيف نقاتل من أجل الحرية، وكيف نتأملُ خطايانا البشرية المزروعة فينا بالفطرة، وكيف نواجه شهواتنا المستحيلة التى تقودنا إلى المهالك، من أجل أن نواجهَها ونقتلَها داخلنا حتى تجدَ ضمائرُنا مكانَها، فتعمل وتهزم القبحَ فى أعماقنا، فينتعش الجمالُ الذى فطرنا اللهُ عليه. الكذب والقتل والحسد والطمع والشهوة والغرور والغضب والكسل والجشع والشراهة، وغيرها من أدران النفس البشرية التى تتكوّن داخلنا كأدوات مقيتة وأسلحة غير شريفة تعزِّزُ غريزة البقاء والتسيّد والتسلّط والأنانية، كانت فى مرمى رصاص «لينين الرملى»، حبيسة دفاتره، حتى أخرجها «محمد صبحى» ومثّلها على خشبة مسرحه المحترم، فجعلها فى مرمى رصاصنا عبر كوميديا راقية ورفيعة، لا تعرف الإسفاف ولا الرّخص. إنه لقاءُ السحاب بين عظيمِ قلمٍ وعظيمِ مسرحٍ، فى لقائهما نعمةٌ أغنتنا وعلّمتنا وأبهجتنا، وفى افتراقهما نقمةٌ شقيّة أتعستنا، لم يدفع ثمنَها إلا نحن، المشاهدين الذين ننتظرُ أن نتعلَّم فى صالة المسرح ما فاتنا أن نتعلّمه على مقاعد المدارس وفى حضن الآباء والأمهات.
قبل أكثر من عشر سنوات، التقيتُ بعظيم القلم «لينين الرملى»، فى النادى اليونانى، وهتفتُ فى وجهه بغضب: «انفصالكما أنت وصبحى ليس حقًّا لكما معًا، فنحن مَن سيدفعُ ثمنَه»، فأطرق رأسَه فى ابتسامة حزينة، ولم يُجب سؤالى أبدًا.
كيف تضحكُ ملءَ قلبك وروحك، وأنت تفكِّر؟! تلك هى المعادلةُ الصعبة التى أجاد صنعها لينين الرملى بمساعدة رفيق رحلته محمد صبحى. سهلٌ أن تضحك، وصعبٌ أن تضحك وأنت تفكّر، وعسيرٌ أن تضحك وتفكر وتتعلّم، وعصىٌّ أن تضحكَ وأنت تفكرُ وتتعلّمُ وتتنقّى وتترقّى وتتهذَّب. تلك هى «الخلطة» المستحيلة التى قدّمها لنا «لينين الرملى» على مسرح المايسترو محمد صبحى، عبر عديد المسرحيات الخالدة.
حرمنا الموتُ من قلم «لينين الرملى» مبكرًا، وحرمنا منه المرضُ قبل الموت بعدّة سنوات. وحرمنا منه قبل الموت والمرض افتراقه عن «صبحى» لأسباب صغيرة مهما كَبُرت. لأن الفنَّ الرفيع أكبرُ من أىّ أسباب. رحم اللهُ «لينين الرملى»، وجازاه خيرًا عن كل ما قدّم لنا من جمال وفكر وضحك محترم. وأتمنى أن تُنتج الدولةُ ما تخبئه أدراجُ «لينين» من كنوزٍ جميلة لم تخرج للنور بعد. ودائمًا «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم