عادل نعمان
ولما قرأنا في كتب التراث والسير أن الأوائل قد فتحوا بلاد الكفر، لانتشال أهلها من عبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الديان، ومن عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ومن الظلام إلى النور، ومن الضلال إلى الحق والعدل، لم يصل إلى علمنا أنهم قد خيروا أهل البلاد الموطوءة بين الإبقاء على دينهم أو الإيمان بالدين الجديد، إلا أن هؤلاء لما رأوا سبى نسائهم وحرق الحصون وكسح البلاد، وقتل الرجال ونهب الأموال، فأحبوا الفاتحين والغزاة أيما حب، وارتاحوا لهم أيما راحة، ولما فرضوا عليهم الجزية والخراج، دينارين جزية على الرأس، ودينارين على الفدان، وثلاثة أرادب حنطة، وقسطين من الزيت ومثلهما من العسل والخل، يدفعون بها إلى «دار الرزق» عطايا ورواتب وأكلًا للمسلمين الفاتحين، ومنهم أهل المدينة حتى الرضع والأرامل والأيتام والعجزة، ولكل رجل من المسلمين الغزاة جبة صوف وبرنس وسراويل وخفان كل عام، وعقوبة من يتخلف منهم تسبى نساؤه، وذريته ويباعون في سوق النخاسة سدادا للدين، ولما عجزوا ووهنوا، تركوا دينهم ودخلوا في دين الرحماء أفواجًا، بالضبط كما حكى لنا الحكاؤون والرواة في حكاياتهم ورواياتهم أن السبايا قد شغفن حبًّا بمن قتل الأب والأخ والعم والخال والابن، وتلطفن بهم، وأسلمن على أيديهم، وعاشروهن بعد حيضة واحدة، وعرفن أن قتلاهم كانوا على ضلال ويستحقون القتل، والقاتل على صواب ويستحق المال والنساء، الناس فيما يعشقون مذاهب، ونحن يعشقنا من نظلم.
ولما قرأنا عن عزل الخليفة عثمان بن عفان، عمرو بن العاص عن ولاية مصر، وتولية عبدالله بن أبى السرح أخيه في الرضاعة، مهدر الدم في عهد الرسول (ص)، وكان يكذب في كتابة الوحى عنه، لم يكن عقوبة أو تقويمًا، أو لمظلمة مظلوم، بل لتهاونه في جمع المال والخراج، فزاده بن أبى السرح إلى أربعة عشر مليون دينار، وقد كانت مليونا واحدا «ألف ألف» في عهد عمرو، ولما عايره الخليفة عثمان بما جمعه بن أبى السرح من خراج، رد عليه عمرو داهية العرب «ذاك بما أعجفتم أولادها» وأعجف يعنى «أضعف» ولها معنى آخر هو الأقرب «استأثر بالطعام على غيره» وحرمانهم الطعام لإرساله إلى أرض الخلافة، ولما عاد عمرو إلى ولاية مصر في عهد معاوية اشترطها لنفسه، أن تكون له ولأولاده من بعده، إرثا خاصا، ضيعة من ضياعه، وقصرا يسكنه هو وذريته، بخراجها وأموالها ونسائها ورجالها ودوابها وزروعها وأنها رها، لا ينازعه في ملكيتها أحد حتى الخليفة نفسه، مقابل أن يمكنه من الخلافة، ويقف معه ضد على بن أبى طالب، ومكنه منها بخدعة التحكيم وعزل الخليفة ولها حكاية معروفة، ولما احتاج الخليفة معاوية يومًا إلى مال يدفع رواتب الجند وعطايا القرشيين أرسل إلى عمرو واليه على مصر، رسالة يطلب منه المدد والعون والمال، فرد رسالته فارغة اليد، وكتب له: «لقد اشترطتها لى»، يعنى «مالكش حاجة عندى»، وأسرها معاوية في نفسه، ولما مات عمرو، صادر معاوية أمواله كلها، أطنان من الذهب والفضة والقصور والضياع والحسان، وقال قولته المشهورة «نأخذها بسحتها»، الخليفة يعلم أن سحتًا أصابها.
وللخليفة معاوية بن أبى سفيان علم بتأثير المال في نفوس كل من الصحاب والخصوم، ولم يكن لانتصاره واستلابه الخلافة إلا باسترضاء الصحاب، وشراء ذمم الخصوم، وكأن الإمام على لا يعرف أن ذمة أخيه وابن عمه كانتا على البحرى، فاستمال معاوية عقيل بن أبى طالب، وضمه إلى صفوفه يقاتل أخاه، نكاية في على وإرضاء لمعاوية، حين رفض الإمام على سداد دين عقيل من بيت مال المسلمين في الكوفة، وقضاها معاوية عنه من بيت مال المسلمين في دمشق،، ومال عبدالله بن عباس على بيت مال المسلمين في البصرة وغرف منه ورحل إلى الطائف مخاصمًا الخليفة متنعمًا في مال استلبه دون وجه حق، وللحسن بن على ما لأبيه من غدر الصحاب والأحباب، وما صنعه معاوية مع عقيل صنعه مع عبيد الله بن العباس قائد جيوش الحسن ووزير دفاعه، اشتراه معاوية بالمال، فسحب معه عشرة الآف من المقاتلين وانضم بهم إلى صفوف معاوية يقاتل الحسن وما بقى معه من شراذم الجند، بالمال وليس بغيره، وكلهم مجاهدون في سبيل الله هنا وهناك.
ولما قرأنا وسمعنا عن صبر الصحاب الأوائل، حين ربطوا الأحجار على بطونهم من شدة الجوع، ومنهم من كان لا يوقد النار في بيته شهورا، ومن كان يطحن نوى البلح خبزا، ومن كان يلبس من الملابس أخشنها وأعجفها، أو إزارا واحدا، ومن كان يقدم مهره خاتمًا من حديد أو سورة من القرآن ومن كان مأواه المسجد لا يلمس فمه الزاد يوما أو بعض يوم، إلا أنهم قد حجبوا عنا سيرتهم بعد الفتوحات والغزوات، وعن ممتلكاتهم من الضياع والعزب والقصور والجوارى والعبيد والإماء وأطنان الذهب والفضة والعقيق، واللحم والدهن والحرير والديباج، يتنعمون ويترفون في نعمائها، هل كان من جد عرقهم أو من كد أيديهم؟ لا، بل كانت من رواتب وعطايا الخلفاء، ومن عرق وجهد وكد وشقاء الغير. تراثنا نثقل على الناس ونفرط فيه إذا كان مقبولا ورحيما، ونقفز فيه قفزا ونواريه عن الناس حين نظلم العباد ونستلب حقوقهم، فيظن القارئ أنه تراث فخر ومدح، لا يا سيدى تراثنا يحمل الكثير من المظالم تستوجب الاعتذار.
نقلا عن المصرى اليوم