14 / 2 : اقباطك يا وطن
كمال زاخر
فماذا لو طرح أمر تنقية الدستور من المواد الدينية فى استفتاء شعبى كما تقضى قواعد تعديل الدستور، أكاد أجزم، وفقاً لتشابكات اللحظة ـ أن النتيجة ستكون عدم موافقة الأغلبية من عامة الشعب، بل ومن غالبية النخب، ولن تذهب النتيجة بعيدا عما حدث فى "غزوة الصناديق" الشهيرة، فقد وقر فى الذهنية العامة أن الإقتراب من تلك المواد، والتى تتصدرها المادة الثانية، يأتى فى سياق مكيدة كونية مدبرة لتنال من الدين.
لعل السؤال ولماذا الدستور؟، لأنه فى تعريف من التعريفات "قانون القوانين"، وموقعه عند قمة هرم القواعد الحاكمة للمجتمع، باعتباره عقد اجتماعى ارتضته كل مكونات الدولة والوطن، وفى هذا الهرم لا تستطيع التشريعات الأقل (القانون واللوائح والتعليمات) أن تخالفه، وإلا كان مصيرها البطلان، عبر الطعن عليها بعدم الدستورية.
والملاحظة الجديرة بالتوقف عندها أن الدول الأكثر استقراراً وتقدماً هى الأقل تعديلا لدستورها، فيما الدول القلقة هى التى تلجأ لتعديل دساتيرها بشكل متواتر، فيزداد ارتباك منظومة تشريعاتها، وينعكس ذلك على استقرارها، وتقدمها، وفى بعضها يكثر تعطيل العمل بالدستور، وترتد إلى نسق القوانين الإستثنائية بشكل لافت، وبعضها يُضمن الدستور تعبيرات غير منضبطة الصياغة تحمل التفافاً على نصوصه لعل ابرزها "ويستثنى من هذا ..."، و "على النحو الذى ينظمه القانون"، هناك تربض قواعد القياس والتأويل، والتفسير الذى يذهب إلى التنقيب فى "نية المشرع".
ولعل السؤال التالى ولماذا الأقباط؟، لأنهم حتى اللحظة وقد عبرنا عقدين كاملين فى الألفية الثالثة مازالوا يئنون ـ على الأرض ـ من استهداف التيارات المتطرفة سواء فى الشارع خاصة فى التجمعات ذات الكثافة القبطية، أو فى طيف من دواوين الحكومة، أو فى إغلاق بعض الوظائف والتخصصات "العلمية" دونهم، ويمتد الأمر للفضاء الرياضى والإجتماعى.
اللافت اللجوء للعرف فى مواجهة الإشكاليات الناجمة عن "التطرف"، وهو ارتداد عن مفهوم "الدولة"، فالعرف يرد حين لا توجد قواعد قانونية تتناول هذه الإشكاليات، أما اللجوء إليه فى وجود القانون فيحسب إعلان لاستبدال نسق الدولة بالقبيلة، وفيها تقفز الإنتماءات الضيقة لتحل محل "المواطنة"، القاعدة التى تقوم عليها الدولة المدنية الحديثة.
فيما تؤكد ديباجة الدستور، والتى تعامل نصوصها معاملة الدستور، على أنه دستور يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، يصون الحرية ويجابه كل ما يهدد وحدتنا الوطنية، ويحقق المساواة فى الحقوق والواجبات، ويؤكد على حق "المواطن" فى العيش فى أمن وأمان.
ولنقرأ معاً ما اوردته الديباجة نصاً :
نحن الآن نكتب دستوراً يجسد حلم الأجيال بمجتمع مزدهر متلاحم، ودولة عادلة تحقق طموحات اليوم والغد للفرد نحن الآن نكتب دستوراً يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية.
نكتب دستوراً يصون حرياتنا، ويحمى الوطن من كل ما يهدد ه أو يهدد وحدتنا الوطنية.
نكتب دستوراً يحقق المساواة بيننا فى الحقوق والواجبات دون أى تمييز.
نحن نؤمن بأن لكل مواطن الحق بالعيش على أرض هذا الوطن فى أمن وأمان، وأن لكل مواطن حقاً فى يومه وفى غده.
وأمر المواطنة ودولة القانون وتفعيل القيم التى اشارت اليها ديباجة الدستور لن يتحقق بإحالته إلى الأجهزة الأمنية، المثقلة بأعباء ومهام جسيمة، أو بسن مزيد من القوانين، بل عبر خطة قومية لإعادة هيكلة الآليات التى تشكل العقل الجمعى، بصبر ورؤية واضحة ومحددة، تسعى بداية لرد الإعتبار لدولة القانون، بحزم وحسم، بعيداً عن المواءمات والتوازنات، وتأتى منظومات التعليم والإعلام والثقافة فى مقدمة هذه الآليات، وواقع الحال يقول بأن القيادة السياسية تملك الرغبة والقدرة والجسارة على اقتحام هذه الدوائر، وظنى أننا بحاجة إلى "ثورة ثقافية" تسترد منظومة قيمنا المصرية، تنفض عنها رمال التصحر التى غشيتنا مع مطلع السبعينيات من القرن العشرين، وكادت تبتلعها،.
"ثورة ثقافية" تعيد للتعليم قدرته على تكوين العقل النقدى، بعيداً عن انساق التلقين، ويعيد الإعتبار للبحث العلمى والإبداع، ويعالج تعدد الأنظمة التعليمية التى تعمق التنافر داخل المجتمع، ليصير تعليماً مدنياً صرفاً.
"ثورة ثقافية" ترد للإعلام ريادته ومهنيته ودوره فى تشكيل العقل الجمعى، وإحياء القومية المصرية، المتصالحة مع التاريخ ودوراته وأحقابه المتتالية، فى عصر الثورة الرقمية وأدواتها المبهرة.
"ثورة ثقافية" تعيد بهاء الثقافة المصرية بأجنحتها المتعددة، أدباً وفناً وابداعاً، كتاباً ومسرحاً وسنيماً، نحتاً وتصويراً وتشكيلاً، بما ينعكس على بيوتنا وشوارعنا ولغة الحوار، فى مقاومة للقبح والتدنى والعشوائية الفكرية والحياتية.
"ثورة ثقافية" تغير نمط حياتنا، وتعيد الإعتبار للعمل الجاد، فى دوائر التصنيع والزراعة، ودوائر المال والإستثمار، ترتقى بالإنسان فتحاصر الفساد والإستغلال والقفز على القانون.
"ثورة ثقافية" تعمق مفاهيم العيش المشترك، والإخاء، والمساواة، والعدالة. وتقاوم الإنعزالية والتنافر والأنانية، وتخرجنا من مضايق الذات إلى رحابة الوطن ودفئه.
::::::::::::::::::::::::::::::::::::
قد يكون المشوار طويل، وهو كذلك فعلاً، لكن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة.