الأنبا إرميا
منذ فجر التاريخ'> التاريخ، و«مِصر» تتقدم العالم فى خطى الحضارة والمعرفة؛ فكان لها ولأبنائها السبق بخطواتهم فى التحول من مجتمع بدائىّ معتمد على الصيد إلى مجتمع زراعىّ مستقر. وانطلقت إبداعات الإنسان المِصرىّ فى العلوم والمعارف فقدم إلى العالم: «التقويم الشمسىّ»، ونظام «الكتابة»، إلى جانب البراعة فى المجالات العلمية كالطب والهندسة وغيرهما من العلوم التى بهَرت العالم وما تزال تُدهش كل الباحثين عن أسرارها حتى اليوم. وقبل أيام قليلة، احتفلنا بذكرى رحيل القديس المِصرىّ «أنبا أنطونيوس» أب جميع الرهبان فى العالم، الذى قدم لنا سبقًا مِصريًّا آخر على صفحات التاريخ'> التاريخ.
نشأة الرهبنة
نشأت الرهبنة فى «مِصر» أواخر القرن الثالث الميلادىّ، وازدهرت فى القرن الرابع الذى بنهايته كانت مئات من الأديرة وآلاف من القلالى (القلاية مسكن الراهب) قد انتشرت على أرض «مِصر». وكثير من الأديرة ما تزال مزدهرة بمئات من الآباء الرهبان، ويأتيها عديد من طالبى الرهبنة حتى اليوم. وقد كان «أنبا أنطونيوس» أول راهب مَسيحىّ فى العالم، وكان قبطيًّا من صَعيد «مِصر».
«أنبا أنطونيوس»
وُلد «أنبا أنطونيوس» سنة ٢٥٠م، فى بلدة «قِمن العروس» بمحافظة «بنى سويف»، من أسرة ثرية؛ وفى سن الثامنة عشْرة، مات والداه وتركاه هو وأخته، فصار منذ وفاتهما كثير التفكير فى أمر زوال العالم. وذات مرة، ولم يكن قد تخطى العشرين بعد، ذهب إلى الكنيسة، وفى أثناء قراءة الإنجيل رن فى قلبه صدى كلمات السيد المسيح: «إن أردتَ أن تكون كاملاً، فاذهب وبِع أملاكك وأعطِ الفقراء، فيكون لك كَنز فى السماء، وتعالَ اتبعنى»؛ فاشتاق إلى ترك كل شىء والتفرغ للعبادة. وعلى الفور، أعلم أخته برغبته، وبعزمه بيع نصيبه وتوزيعه على الفقراء؛ فوافقته هى الأخرى وباعا كلاهما كل ما لديهما، واحتفظ هو بقليل من المال من أجل أخته. وبعد زمن يسير، ترك العالم ومضى إلى البرّية من أجل التعبد والصلاة، بعد أن أودع أخته فى بيت للعذارى. ظل «أنبا أنطونيوس» يحيا فى حصن مهجور على جانب النهر، ثم انتقل إلى البرّية الداخلية، وعاش حياة التوحد والزهد والصلاة خمسة وثمانين عامًا فى القفار والبرارى، ليصير بحياته أبًا للرهبان ومؤسسًا للحركة الرهبانية، لا فى «مِصر» وحدها، بل العالم بأسره؛ فقد جذبت سيرته كثيرين وبثت شوقًا فى أنفسهم إلى حياة الرهبنة؛ وهٰكذا صارت لـ«أنبا أنطونيوس» آلاف من التلاميذ والأبناء، وأمست سيرته سراجًا مرشدًا إلى حياة الرهبنة والزهد للعالم أجمع؛ وحقًّا ما كُتب: «إن هٰذه السيرة قد بعثت تأثيرًا قويًّا فى كل أرجاء العالم، وهى التى أشعلت الرغبة النُّسكية فى روما، وفى كل الغرب».
الرهبنة فى العالم
قدمت «الكنيسة القبطية المِصرية» الرهبنة إلى العالم بأسره؛ فجميع الأديرة المَسيحية نبعت جذورهاـ بطريقة مباشرة أو غير مباشرةـ من الرهبنة المِصرية، إذ تخطت شهرة «أنبا أنطونيوس» وتأثيره أرض «مِصر» لتصل إلى «آسيا» و«أوروبا»؛ ويرجع الفضل فى ذٰلك إلى البابا البطريرك «أثَناسيوس الرسولىّ» (العشرين فى بطاركة الإسكندرية)، الذى كان قد تتلمذ على يد «أنبا أنطونيوس» وألبسه الزى الرهبانىّ والذى ذكر عنه: «لقد رأيت «أنطونيوس» مرارًا وتعلمت منه؛ لأننى لازمته زمنًا طويلاً، وسكبت ماءً على يديه (أى: خدمته)». وقد رأى «البابا أثناسيوس» ضرورة أن يسجل ما رآه وعاشه فى تلمذته لـ«أنبا أنطونيوس»؛ فكتب فى أثناء وجوده بـ«روما» كتابه «أنبا أنطونيوس» الذى انتشر فى الغرب؛ حيث ظل بـ«روما» عامًا ونصف العام يقدم لأهلها حياة الرهبنة ويضع لهم أسسها. وقد زار كثير من الآباء «مِصر»، ونقلوا إلى بلادهم ما شاهدوه فى الحياة الرهبانية المِصرية، ومنهم: «القديس باسيليوس الكبير» أسقف قيصرية الكبادوك منظم الحركة الرهبانية فى «آسيا الصغرى»، و«القديس ﭽيروم» الذى تَرجم «الكتاب المقدس» إلى اللغة اللاتينية، وعدد كبير من الرحالة السواح الذين نقلوا ما رأَوه عن الحياة الرهبانية فى «مِصر». و... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم