د. محمود خليل
مصائب قوم عند قوم فوائد، فالضرر الذى يلحق بطرف قد يكون له فائدة كبيرة عند أطراف أخرى. هكذا تقول التجربة الصينية. فى الصين ظهرت جائحة «كورونا» وأودت بحياة 360 مواطناً -حتى لحظة كتابة المقال- وإصابة الآلاف، اهتزت البورصة الصينية بشدة، وبدأت الخسائر تتلاحق على الاقتصاد الصينى، هذه الخسائر تحوّلت إلى مكاسب لدى مصانع «الكمامات الطبية»، بعد انتعاش الطلب عليها، فارتفعت أسعارها وباتت مصانع إنتاجها تعمل على مدار 24 ساعة، وانتعشت أيضاً صناعة القفازات الطبية. ومع وصول المصريين الذين كانوا يقيمون بمدينة «ووهان» بالصين، وظهور الدكتورة هالة زايد، وزيرة الصحة، بكمامة لا تغطى أنفها ضمن الفريق الطبى، الذى استقبل العائدين، انتعشت سوق السوشيال ميديا فى مصر، واشتعلت بالتعليقات حول «أنف الوزيرة المكشوف»!.
فى مثل هذه الأحوال، تشيع «لعبة الأحجبة». فأمام تغول المرض وتراقص شبح الموت أمام الأعين، تضعف النفوس، وتهتز وتصبح جاهزة لقبول أى طوق نجاة، حتى لو كان حجاباً. زمان كان أهل مصر يتفاعلون مع الجوائح بلعبة الأحجبة. حكى «الجبرتى» فى «عجائب الآثار» أن المصريين استعانوا بالأحجبة، ويكلفون الأطفال بقراءة القرآن الكريم والابتهال إلى الله عز وجل حتى تحل رحمته بالعباد. وحكى الدكتور طه حسين فى كتابه «الأيام» أن شيخ الكتاب أعد مجموعة كبيرة من الأحجبة عندما ضرب وباء الكوليرا عزبة الكيلو -مسقط رأس طه حسين- وأخذ يبيعها يمينا ويساراً، وزعم أنها تقى حاملها من الكوليرا، فأقبل الناس على شرائها. وكان من اللافت أن يموت شيخ الكتاب بالكوليرا أثناء تربّحه من بيع أحجبة الوقاية منها!.
قيل زمان إن سفينة كانت توشك على الغرق. فاضطرب الراكبون على متنها أشد الاضطراب وارتبكوا كل الارتباك، إلا رجلاً واحداً جلس هادئاً فى أحد الأركان لا يعلو وجهه أى خوف أو جزع، فتحير أحد الركاب المرتعدين من أمره، فذهب إليه وسأله: ما كل هذا الهدوء والسفينة توشك على الغرق؟ فأجابه مبتسماً: معى حجاب يقينى من الموت غرقاً. ثم أردف: معى غيره.. هل تريد أن تشترى؟. فسارع الرجل بالطبع إلى الشراء. وشاع أمر «بائع الأحجبة» بين أهل السفينة، فاشتروا جميعهم من بضاعته، وبعد حين هدأت العواصف واستقامت السفينة على صفحة الماء. ذهب الرجل إلى بائع الأحجبة وقال له: «حجابك سره باتع». فرد البائع مبتسماً: إنه مجرد ورقة فارغة. فتعجّب الرجل، فأردف البائع: لقد قرّرت فقط أن أستغل الموقف لتحقيق بعض المكاسب. فأوهمتكم أن الورقة الفارغة حجاب، وقد توقعت أحد أمرين: فإما أن تغرق السفينة بنا ونموت جميعاً ولا يسأل أحد أحداً، أو ننجو، وساعتها لن يسألنى أحد عن الورقة البيضاء الفارغة التى بعتها له.
لعبة بيع الأحجبة تروج فى حالة الأزمات والمواجهات الصعبة، لكن ذلك لا يمنع من بيعها فى أحوال عادية. فالكلمات التى تقفز على الواقع وتجمل القبيح وتبيع الأوهام للناس لا تختلف كثيراً عن لعبة «الأحجبة»، التى حقق منها راكب السفينة «فلوس متلتلة».
نقلا عن الوطن