محمد الباز
قبل سنوات كنت أحاور الفنان فاروق حسنى، وزير الثقافة الأسبق، عن أيامه التى مضت ومشروعاته التى انقضت، وعندما لامست بأطراف الحديث مشروع المتحف المصرى الكبير وجدته يشرد قليلًا ويذهب بعينيه بعيدًا، ربما كان يستعيد إحساس وقوفه وراء فكرة أن يكون لدينا أكبر متحف فى العالم، لأن هذا يليق بنا ونليق به.
قال لى: «هذا المتحف هو أعظم أحلامى، وهو ليس أمنية شخص، بل حلم دولة، لا يزال يطاردنى فى مناماتى، وأنتظر اليوم الذى يتم فيه افتتاحه، لأرى على الأرض ماذا جرى».
قبل أيام قليلة وجدت فاروق حسنى يتجول فى المتحف، توقفت أمام بعض الصور التى التقطت له، شعرت أنه يقف منتشيًا تسيطر عليه علامات الفخر وأمارات الاطمئنان وبوادر الراحة.
لم أعرف ما الذى قاله فاروق حسنى عندما زار المتحف الكبير، انشغلت عن التواصل معه لأعرف مشاعره فى اللحظة التى صافح فيها أرض المتحف الكبير التى شهد على تخصصيها منذ سنوات طويلة.
وجدت الإجابة عند اللواء عاطف مفتاح، المشرف العام على المشروع.
لكن ما رأيكم أن نعرف كيف جرت الزيارة أولًا؟
وسط الأجواء المشحونة بالتفاصيل التى لا تنتهى، ويعمل فيها اللواء عاطف مفتاح دون انقطاع، فهو والذين يعملون معه لا يعرفون الفرق بين الليل والنهار، ولا يعترفون بشىء اسمه إجازات، توقف قليلًا عند ما اعتبره حقًا لفاروق حسنى صاحب فكرة المتحف، ودون مقدمات قرر أن يوجه له دعوة لزيارة الموقع.
تحدث اللواء عاطف مفتاح مع الدكتور خالد العنانى، وزير السياحة والآثار، عرض عليه الفكرة، فلم يرحب بها فقط، بل اتصل على الفور بفاروق حسنى، قال له: «ننتظر زيارتك للمتحف فى أى وقت تختاره»، وقبل أن تمر ٤٨ ساعة كان فاروق يتجول فى المتحف بصحبة الدكتور زاهى حواس والدكتور مصطفى الفقى.
يؤمن اللواء عاطف مفتاح بأن المعجزة التى تتحقق على الأرض يقف وراءها كثيرون، ولا يجب استبعاد أحد أو تهميش دوره، أو التنكر له، وهو ما دفعه إلى دعوة صاحب الفكرة والحالم الأول بها.
المفاجأة الكبرى كانت فى تعليق فاروق حسنى على ما رآه على أرض المتحف الكبير، قال: ما أراه يفوق ما تخيلت وكل ما حلمت به.
لو أننى استمعت إلى ما قاله فاروق حسنى لاعتقدت أنه يجامل، أو على الأقل يتحدث بدبلوماسية معروفة عنه، لكن عندما طفت بالمتحف الكبير، ورأيت ما جرى على الأرض، تأكدت أن ما قاله فاروق حسنى لم يفارق الحقيقة أبدًا، فهو يفوق أحلام أعظم القادرين على الحلم ويتفوق على أكثر السابحين فى الخيال.
ذهبت إلى المتحف الكبير مساء الأربعاء ٢٩ يناير ٢٠٢٠.
الدعوة كانت لمجموعة من الصحفيين والإعلاميين والشخصيات العامة باسم وزيرى الإعلام أسامة هيكل، والسياحة والآثار خالد العنانى، ولعب فيها دور البطولة اللواء عاطف مفتاح، الذى أعتقد أنه يعرف كل شىء عن مشروع المتحف الكبير كما يعرف خطوط راحة يده.
هل تسمحوا لى أن أقفز على تفاصيل الزيارة وما جرى فيها قليلًا؟
أعدكم أننا سنعود إليها سويًا، فعلى أرضها سيمتد بيننا الكلام.
عندما استمعت لشرح اللواء عاطف عن كل كبيرة وصغيرة تخص المتحف الكبير، وضعت يدى على حقيقة لا يمكن أن أتنكر لها أو أتجاهلها حتى لو كانت مزعجة للبعض.
هناك فارق كبير بين القيادات العسكرية عندما تتولى إدارة أو الإشراف على مشروع بعينه والقيادات المدنية التى يمكن أن تتولى إدارة أو الإشراف على المشروع نفسه.
الفارق ليس فى طريقة الإدارة أو نمط العمل أو حتى نتائجه، ولكن فى الروح التى تتملك من يعمل، وتسيطر عليه، وتقوده إلى حيث يريد.
القيادة العسكرية تتعامل مع أى مهمة على أنها عمل وطنى، أى تكاسل أو إهمال خيانة لا تغتفر.
أما القيادة المدنية فهى تتعامل مع أى مهمة على أنها مجرد عمل، الروتين يحكم، تجد اهتمامًا بالإجازات أكثر من الاهتمام بأيام العمل، لا التفات للوقت، فلا مشكلة أن يكون هناك إهدار فى الوقت أو حتى المال.
فلسفة القيادة العسكرية فى العمل تستمد ملامحها من ثلاثية حاكمة هى: أكبر إنجار فى أسرع وقت بأقل تكلفة، مع الحرص الشديد على الجودة التى لا يتسامح فى التهاون بها أحد، وهو ما تترجمه الأرقام، فبعد أن كانت التكلفة المطلوبة لإنجاز المتحف مليارًا و٦٠٠ مليون دولار، أصبحت ٨٣٠ مليون دولار بتوفير يصل إلى ما يقرب من ٧٧٠ مليون دولار.
وإذا سألتنى: كيف تم ذلك؟ سأقول لك إن الحكاية طويلة، وما عليك إلا أن تنتظرها فى وقتها.
شىء من هذا حدث مع مشروع المتحف الكبير، الذى تحول من مشروع متعثر، فى العام ٢٠١٥، إلى مشروع عالمى، بل مشروع القرن بالفعل، يتم افتتاحه فى الربع الأخير من العام ٢٠٢٠، وهى قصة طويلة سأروى لكم تفاصيلها فى هذا الحديث الممتد بيننا.
من بين الكثير الذى سمعته فى هذه الجولة أنه لا شىء متروك للصدفة أو المجازفة، وهى عبارة جعلتنى أقف وجهًا لوجه أمام مصر الحقيقية التى لا يعرفها كثيرون، وهو ما يجعلهم يتهاونون فى حقها ويستهينون بها.
العمل فى المتحف الكبير ليس عملًا فرديًا.
الخيوط متشابكة لكنها ليست معقدة.
كان معنا الدكتور خالد العنانى، وزير السياحة والآثار، الذى تزامن قرار إحياء العمل فى المتحف فى فبراير ٢٠١٦ مع تكليفه بوزارة الآثار فى مارس ٢٠١٦، وهو ما يجعله أحد آباء المشروع الكبار، وكان معنا أيضًا أسامة هيكل الذى كان سندًا للمشروع من موقعه كرئيس للجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب، قبل أن يتولى عمله كوزير دولة للإعلام.
من خلال هذه اللجنة زار أسامة هيكل المتحف الكبير خلال مراحل العمل فيه، هو ومجموعة من النواب، كثيرًا، ولم يكن غريبًا أن يقول له اللواء عاطف مفتاح «إنك تعرف كل ركن فى هذا المتحف كما أعرفه أنا تمامًا».
ومن خلال هذه اللجنة أيضًا تم العمل على إنجاز قانون يتم التعامل من خلاله مع المتحف على أنه هيئة مستقلة.
الفكرة كانت قد اكتملت لدى المشرف على المشروع، أنه لو تُركت إدارته لماكينة العمل المصرية التقليدية الروتينية لما بقى فيه شىء، وهو أمر واقع لا يمكن أن ننكره.
حمل العنانى الفكرة إلى الرئيس وحصل منه على موافقة شفهية لإصدار قانون يجعل المتحف هيئة مستقلة لها مجلس أمناء من شخصيات لها ثقلها الدولى ويرأسها الرئيس بنفسه، وقد كان، ففى خلال ثلاثة شهور فقط كان القانون قد صدر فى إشارة إلى أن الجميع يعرف قدر وقيمة المتحف جيدًا.
يمكن أن تتحدث عن المسئولية فى اتخاذ قرار إحياء العمل فى مشروع المتحف الكبير.
ويمكن أن تروى الكثير عن الشجاعة فى التصدى لمشروع بهذه التكلفة الباهظة.
ويمكن أن تعدد مشاهد العبقرية فى الأداء والبناء والعائد الاستثمارى الكبير الذى سيعود على مصر من هذا المشروع.
لكن كل هذا بالنسبة لى يتواضع أمام الفكرة الكبرى التى سيطرت علىّ وأنا على أرض المتحف الكبير، فعندما دخلت إلى بهو المتحف وجدت نفسى وجهًا لوجه أمام تمثال الملك رمسيس الثانى، يقف شامخًا وشاهدًا.
رأيته قبل ذلك وهو يقف فى ميدان رمسيس، لم تكن له هذه المهابة، ولا كان بهذه القدرة على التأثير فى نفس مَنْ يطالعه.
فى معمل الترميم وجدت العمل لا يتوقف فى ترميم قطع الملك توت عنخ آمون، التى تزيد على ٥ آلاف قطعة تعرض للمرة الأولى فى التاريخ فى مكان واحد، من خلال صالة عرض هى الأكبر فى العالم، وذلك على مساحة ٧٥٠٠ متر مربع.
رأيت أيضًا تمثالًا لإخناتون، أول من نادى بالتوحيد فى العالم ربما قبل الأديان والرسالات السماوية.
وكان مهمًا أن نعرف أن هذا المتحف هو المتحف الأكبر فى العالم الذى يحوى آثار حضارة واحدة فقط وهى الحضارة الفرعونية.
تأملت كل هذا وأكثر منه، ليستقر فى يقينى أن هذا المتحف يضم سلفنا الصالح الذين صنعوا الحضارة الفرعونية، التى لا نزال نستظل بظلها.
هنا سنقدمهم للعالم بشكل راقٍ ومتحضر واحترافى وعلمى.
هنا نقول لهم إننا نستحق أن نكون أحفادهم بعد أن أهملناهم كثيرًا.
هنا سنقدم لهم اعتذارًا بأثر رجعى على أننا لم نتعامل معهم بالشكل الذى يليق بهم.
الفراعنة هم سلفنا الصالح فى العلم والتفكير والتوحيد والعمل الحقيقى والجاد، وآن الأوان أن نمنحهم حقهم، أن نعيد تقديمهم مرة أخرى للبشرية بالشكل الذى يناسب إنجازهم الذى لا يزال ممتدًا.
كان المصريون يسافرون إلى دول العالم ويتحسرون على أننا لا نملك متحفًا يناسب آثارنا الفرعونية يماثل المتاحف التى يرونها فى الخارج، أعتقد أن مَن تحسروا طويلًا لن يعودوا إلى هذا الشعور مرة أخرى.
وإذا أردتم أن تتأكدوا من كلامى.
فتعالوا نبدأ الجولة التى رأينا فيها بالفعل ما لا عين رأت قبل ذلك على الأقل هنا فى مصر.
وغدًا حديث جديد.
نقلا عن الدستور