قضية اليوم هي قضية مزمنة نحملها معنا كلما غادرنا عاما إلي عام جديد علي أمل أن يطولها الإصلاح والانضباط والتطوير… إنها قضية المرور في الشارع المصري, وإذا كنت قد تناولت الأسبوع الماضي شكلا من أشكال فوضي وانفلات المرور عند استعراضي ملف التوك توك والميني فان فهذا لا يعني إطلاقا اقتصار الفوضي والانفلات عليهما بل تمتد تلك السلوكيات علي سائر المركبات من سيارات خاصة وسيارات أجرة بمختلف مستوياتها مرورا بكل وسائل المواصلات الجماعية ووسائل النقل الخفيف ووصولا إلي وسائل النقل المتوسط والثقيل.
ومهما تناولت الدراسات الطفرة الكبيرة التي حدثت في السنوات الأخيرة في شبكات الطرق علي مستوي القاهرة العاصمة أو في داخل عواصم المحافظات والمدن الرئيسية أو طرق السفر بين المحافظات أو في شبكات الطرق القومية التي تعبر المناطق النائية, تظل أخبار الحوادث البشعة تباغتنا كل يوم وترفع من مؤشر الخطورة علي طرقنا, ذلك لأن سلامة الطرق لا تعتمد علي مواصفات الطريق وحدها, إنما علي عوامل متعددة تتصل بصلاحية المركبات ودرجات تأهيل سائقيها وسلوكياتهم أثناء القيادة… وفوق ذلك كله مستويات مراقبة الطرق ورصد التجاوزات في السرعات وتعقب المخالفين وتوقيفهم ومحاسبتهم… فجميع قوانين المرور المكتوبة علي ورق وكل إشارات ولافتات السير المثبتة علي الطرق وسائر المحاذير الواجب اتباعها من جانب قائدي المركبات تنعدم قيمتها ما لم تكن مصحوبة بعيون يقظة صارمة لا تنام ولا يفلت منها مخالف… وأكرر أن عدم وجود قوانين للمرور علي الإطلاق ليس أسوأ كثيرا من وجود قوانين معطلة وغير فاعلة وتسمح للمخالفين بالاستهانة والاستهزاء بها عندما يرتكبون المخالفة ويمضون بفعلتهم دون حساب أو عقاب.
ومن المؤلم بمكان أن درجات التردي في سلوكيات القيادة سواء ما يتصل بفنونها أو بأخلاقياتها آخذة في الاستفحال حتي بات كل شيء مباحا وباتت الحركة علي الطريق دربا من المخاطرة والمغامرة والمقامرة… ومن المضحك المبكي أن الأجانب الذين يزورون بلادنا يشهدون بأن السائق المصري لديه لياقة ذهنية ملفتة علي توقع مخالفات أقرانه علي الطريق وسرعة رد الفعل إزاءها وهو ليس أمرا محمودا إنما هو دليل علي مستويات الفوضي والتسيب والانفلات التي قد ينجو منها البعض بعض الأحيان لكن مستحيل أن يسلم منها الكل جميع الأحيان!!!
وما يدعو للحسرة أننا منذ ما يزيد علي نصف قرن كنا نتندر بانضباط المرور ومثاليات القيادة ويقظة القانون التي نعايشها خلال أسفارنا إلي الدول الأوروبية والأمريكية وغيرها مما كنا نطلق عليها دول العالم المتقدم, ولم نكن نهتم بأحوال المرور في دول عالمنا العربي, حتي أفقنا علي تمتع الكثير من الدول العربية -وخاصة دول الخليج العربي- بشبكات طرق رائعة وسلوكيات قيادة مثالية ونظم رقابة صارمة يقظة جعلتنا نتساءل: ما بالنا نحن وحدنا الذين فشلنا فشلا ذريعا في ضبط منظومة المرور علي طرقنا؟… وما العمل لتدارك الفوضي والانفلات المتروكين يعملان بامتياز علي تشويه إرثنا الحضاري ويقوضان كل خطط التحديث والتطوير في شوارعنا حتي أصبحت درجات الأمان والنجاة من المخاطر مكفولة فقط في وسائل المواصلات التي تتحرك علي قضبان!!… مع التحفظ علي حوادث قطارات السكك الحديدية التي نأمل أن تختفي مع الجهود الحثيثة لإصلاح وتطوير ذلك المرفق حاليا.
ويثار تساؤل جاد: هل يكمن إصلاح المرور في الشارع المصري في إعادة النظر في المؤسسة التي تديره؟… هل ينبغي النظر في خصخصة منظومة إدارة ورقابة المرور في شوارعنا؟… هل حان الوقت للعمل علي فصل منظومة الأمن عن منظومة المرور بحيث تستمر الشرطة في القيام بدورها في تحقيق الأمن والأمان ومنع الجريمة وتعقب المجرمين بينما ينسلخ عنها جهاز آخر مسئول عن ضبط ورقابة المرور وتفعيل قوانينه وتطهير شوارعنا من الفوضي والانفلات والتسيب؟… إن الحاجة ملحة لوضع حد للترهل الإداري الذي تتصف به منظومة إدارة المرور في بلادنا والتي تخلت عن دورها الأساسي كعين ساهرة صارمة لا تنام وقنعت بدور الانقضاض المفاجئ والأكمنة المباغتة التي تبحث عن فريسة تعاقبها علي خطأ ارتكبته… تلك الفريسة المتروكة تمرح وتعيث فسادا وتتوطد سلوكياتها علي التسيب والفوضي حتي ينزل عليها القصاص لينال منها… لكن هل أدي ذلك إلي إصلاح حقيقي؟… للأسف انحصرت النتيجة في ردع وقتي دون أن تدرك التقويم الاستمراري.
*** تناولت اليوم هذه القضية المزمنة من حيث الواقع وكيفية تغييره, وأستعرض في مقال قادم باقة من أشكال الفوضي والانفلات في منظومة المرور في شوارعنا والتي تعد قنابل موقوتة معدة للانفجار في كل يوم وكل ساعة وكل لحظة!!