أمينة خيرى
ما زلنا فى مرحلة محاولة إعادة البناء، وما حديث تجديد الخطاب الدينى، وفتح المجال العام، وغلق أبواب الجحيم الفكرى والتشدد القبلى وغيرها من الملفات الجدلية إلا خطوات فى طريق إعادة البناء على نظافة، وبينما نصول ونجول فى هل التراث مقدس أم نصف مقدس، وهل فتح أبواب التعبير السياسى والعمل الحزبى يفيد أم يضر أو نصف نصف، وغيرها من النقاشات التى تؤكد أن مصر ما زالت بخير، وأن المصريين ما زالت لديهم القدرة على التشبث بالمنطق، ولو كانوا قلة، علينا ألا نغفل مسألة المواطنة، فالمواطنة فى حال تم الالتفات إليها قادرة على حسم العديد من القضايا التى تعتقد غالبية المصريين أنها مثار شد وجذب.
الشد والجذب الذى نخوض فيه على صفحات «فيسبوك» ومجموعات «واتس آب» باعتبارنا سكان حى ما، أو جيراناً فى مجموعة عمارات، أو أولياء أمور أبناء وبنات فى مدرسة واحدة أو ما شابه، يكشفان مشكلات عدة فى مفاهيم المواطنة والعقد الاجتماعى والمسئولية المجتمعية لكل منا.
المسئولية المجتمعية ليست فقط تلك المشروعات التى تقوم بها شركات كبرى على سبيل إعلان طيبة قلبها وحنية مشاعرها تجاه المجتمعات التى تعمل فيها، ولكنها مسئولية كل منا فى المجتمع الذى نتشارك فيه. والعقد الاجتماعى -الذى هو بمثابة ميثاق يتفق عليه الناس طواعية لغرض تنظيم الحقوق والواجبات فى الحياة المشتركة بينهم- الغرض منه هو تنظيم التعارض المعروف بين ميولنا الفردية وأولوياتنا التى تتغير من شخص لآخر من جهة، وبين مصلحة المجتمع وصحته ومكانته من جهة أخرى، أما المواطنة، فهى تلك الكلمة التى تلوكها ألسنتنا دون أن تجتازها متجهة نحو القلب أو العقل.
المواطنة -التى هى حقوق وواجبات كل مواطن فى وطن ما- ليست حب الوطن، لكنها الالتزام بالحقوق والواجبات دون إلباس أحدهما ثوب الآخر.
وأعود إلى الصفحات والمجموعات العنكبوتية التى تجمعنا بحكم المصلحة التى يفترض أنها مشتركة. تحليل مضمون أغلب هذه الصفحات يؤدى بنا إلى عدد من النتائج التى تحتاج خطة علاج سريعة، يطالب أحدهم بمنع السير العكسى فى المنطقة التى يسكن فيها، فيضم البعض صوته للمطالب، ويهرع كثيرون إلى تبرير الخطأ: «المنطقة ليست مزدحمة، إيه المشكلة يعنى؟»، «طالما من يسير عكسى لم يقتل أحداً فلا مشكلة»، «هل من المنطقى أن أقود 50 متراً إضافية لأدخل الشارع؟ إيه المشكلة لو خطفت حتة صغيرة عكسى؟».
تعترض على من يسيرون على المضمار الرياضى فى النادى بأحذية غير رياضية وعكس الاتجاه أو يحولون المضمار لحلقة سمر، فيخرج عليك من ينعتك بـ«النفسنة» أو «الفاضى يعمل معترض» أو «كل واحد حر يلبس اللى هو عايزه ويمشى فى الاتجاه اللى عايزه ويقف فى المكان اللى عايزه».
وتمضى بنا تفاصيل الحياة اليومية لتكشف أن أجيالاً بأكملها خرجت إلى عالم الأبوة والأمومة والعمل والسكن والجيرة وهى لا تعرف عن مفهوم الحرية سوى أنها حرية الشخص فى أن يقوم بما يحلو له طالما لم يقتل من حوله، وقد وصل الأمر إلى درجة أن هناك من الآباء والأمهات من يدافع عن سماحه للابن الذى لا يتجاوز عمره 11 سنة أن يقود سيارة «طالما لم يدهس أحداً»، أو يرد عليك حين تنصحه بخطورة جلوس صغيره أمامه وهو يقود السيارة بـ«وأنت مالك»!
المثير أن نفس هؤلاء الأشخاص حين يسافرون إلى الخارج ينصاعون لما يملى عليهم دون أن يقولوا «تلت التلاتة كام». وكنا حتى سنوات قريبة مضت نستشهد بالمصرى الذى يسافر إلى دولة أوروبية أو اليابان أو أمريكا فيلتزم دون مناقشة ويرتدع دون جدال. والآن، نستشهد بالمصرى الذى يسافر دولة خليجية فيلتزم التزاماً أكبر دون أن يتحف من حوله ببلادة «وإيه المشكلة يعنى؟» و«أنت مالك؟» أو يصف من يجبره على الالتزام بأنه «منفسن». ملايين المصريين، لا سيما من جيل الآباء والأمهات الجدد أمضوا سنوات من عمرهم فى الخليج، ورغم ذلك يعود الكثيرون منهم فيعاودون اعتناق المبدأ الهزلى الخاص بالحرية الشخصية ليفعل ما يحلو له.
وللأسف، نحن فى موقف لا نحسد عليه. فمعتنقو مبدأ الحرية الشخصية السمجة، والمجادلون فى أهمية الالتزام بالقواعد، والمرتاحون لهواية خرق القوانين يدعمهم غياب تطبيق القوانين من الأصل، وإذا اعتمدنا على منهج «نناشد المواطنين الشرفاء الالتزام» أو «الفوضى سلوك مواطنين» أو «نناشد قادة السيارات احترام قواعد المرور» وغيرها فإننا حتماً ضائعون.
مفاهيم المواطنة والعقد الاجتماعى والمسئولية المجتمعية تحتاج إلى زرع وتجذير، وليس مناشدة واستعطافاً. ومن لا توقظ ضميره أو تنعش آدميته مناشدات تعريض نفسه وغيره للخطر بسبب سفهه وجهله، فليوقظه وينعشه قانون يطبق بكل حسم، لحين تخريج جيل جديد يعرف الفرق بين ألف المسئولية وكوز ذرة العشوائية.
نقلا عن الوطن