د. نادر نور الدين محمد
تقوم الدنيا وتتحرك أجهزة ولوادر الدولة من أجل إزالة بيت لفلاح، يستر به أبناءه، بناه على نصف قيراط من الأرض الزراعية، رغم أنه يعالج تقصير الدولة فى عدم بناء مساكن لأهل الريف فى الزمام الصحراوى للمحافظة تتسع لأبناء القرى، فلم تقم أى حكومة حديثة بنزع ملكية عشرات الأفدنة من الأراضى الزراعية الخصبة لبناء مساكن عليها، وإنما يقتصر الأمر على بضعة قراريط لبناء مدرسة أو محطة مياه شرب أو محطة صرف صحى أو محول للكهرباء، بل إن هذا الأمر يتطلب موافقة وزير الزراعة شخصيًا وتحمله المسؤولية عند مساءلته أمام البرلمان عما إذا كان الأمر مصلحة عامة أم شطحات وتهورًا شخصيًا، على حساب الأمن الغذائى لوطن يستورد 65% من غذائه، يدفع فيها 15 مليار دولار سنويًا، ويصرف المليارات من أجل استصلاح مساحات متناثرة فى الصحارى المصرية!.
تقول منظمة الأغذية والزراعة إن السنتيمتر الواحد المفقود من الترب الزراعية يتطلب ألف عام لكى يتم تكوين مثيل له، وإن الفقراء والدول الفقيرة، الذين يستوردون غالبية غذائهم، هم الأَوْلَى بالمحافظة على الترب الزراعية، التى هى مرادف للغذاء والأمن الغذائى، ونستطيع أن نستبدل كلمة «الأمن الغذائى» بـ«الأرض الزراعية المنتجة». ولكن الأمر يختلف، فالفقراء والدول المستوردة لغذائها هم أكثر مَن يعتدون على الأراضى الزراعية ويفرطون فيها، بل تتدهور حالتها تحت الحاجة، ويتم أخذ خيراتها دون تعويض لما تفقده من عناصر غذائية، يأخذها النبات ويستفيد منها البشر لاستكمال حاجتهم من العناصر الغذائية، فالفقراء يتسببون فى تدهور الأراضى الزراعية، وتدهور الأراضى الزراعية يتسبب فى الفقر والعنف والهجرة الداخلية والخارجية، ولكن هذا هو واقعنا المرير، فى غياب الرقابة الصارمة والرقابة الشخصية النابعة عن وعى قومى وسياسى.
.. فعندما يقرر محافظ الوادى الجديد تحويل أراضى مزرعة بحثية، تبلغ مساحتها 89 فدانًا، بذل القائمون عليها الجهد والوقت لعشرات السنين لبناء خصوبتها لتصبح مزرعة إرشادية، وتمد أبناء المنطقة المحيطة باحتياجاتهم الغذائية، بحجة أنها تقع فى منطقة سكنية، فهذا غريب، حيث إن مركز البحوث الزراعية، التابع لوزارة الزراعة، يقع فى شارع جامعة القاهرة، وسط المنطقة السكنية، ومن بعده مزرعة كلية الزراعة بجامعة القاهرة فى وسط ناهيا وبولاق الدكرور، ثم حديقة الحيوان بمساحتها الشاسعة وحديقة الأورمان، وجميعها رئات تنفسية لسكان مناطق الدقى والجيزة، وتحضر واخضرار لمَن يعى ويملك الوعى والرؤية الصحيحة بعيدًا عن ممارسة السلطة والتسلط، فهل ننقل هذه الرئات الخضراء وأماكن النفع المجتمعى، التى أمدت مصر بالأصناف الحديثة والمتطورة والمتلائمة مع تغيرات المناخ والجفاف والمقاومة للأمراض من أصناف القمح والفول والعدس ومختلف أنواع الخضروات والفاكهة، والتى يعود نفعها على المجتمع بأسره، من أجل أعداء اللون الأخضر والعاشقين للونين الأصفر والرمادى الأسمنتى وكأننا نطعن أنفسنا أو نعمى عيوننا لأشياء لا تُشترى؟!.
عندما تريد محافظة ما التوسع السكنى يكون الرد المسؤول عليها: عليكم بالزمام الصحراوى للمحافظة، بينما المحافظة الصحراوية مترامية الأطراف، التى تمثل 44% من مساحة مصر، تستكثر البقع الخضراء، وسط صفار الصحراء، وتريد أن تقتلع الخير والغذاء من أجل الأسمنت، تاركة زمامها الصحراوى المترامى، وغير مُقدِّرة للانتظار ألف عام من أجل إعادة تكوين سنتيمتر واحد من الأراضى الزراعية، فما الفرق بين أن يأخذ محافظ المنوفية أو البحيرة أو الفيوم قرارًا بنزع ملكية مائة فدان من الأراضى الزراعية الخصبة وبين أن يقوم به محافظ الوادى الجديد، حيث ينبغى أن تنتفض الدنيا ولا تقعد أبدًا؟!. هذا لأن البعض لم يرَ كيف أن الحاجة للزراعة تجعل المواطنين فى مالى وتشاد يزرعون شرائح لا تزيد مساحتها على المترين فى ثلاثة أمتار من أجل الحصول على القليل من الغذاء بسبب ندرة الأراضى الزراعية، بل بدأت زراعات الأسطح فى المدن من أجل المزيد من إنتاج الغذاء، ولكن الوضع المعكوس فى الوادى الجديد غريب ومستفز.
فى بلد ينفق المليارات من أجل استصلاح عشرات الأفدنة، لا ينبغى أبدًا لرئيس الوزراء ولا لوزير الزراعة الموافقة على نزع ملكية المزرعة البحثية بمحافظة الوادى الجديد، بل ينبغى أن يحاسب مَن ذهب فكره إلى هذا الخراب، فبدلًا من زيارة نادى القرن فقط لبحث التعاون مع المحافظة الصحراوية، فالأمر كان يتطلب زيارة وزارة الزراعة لزيادة الرقعة الزراعية فى المحافظة الصحراوية وزيادة مساحة اللون الأخضر، لا اقتلاعه، لأن الأراضى الزراعية أمن قومى، وفريق مباحثاتنا يكافح فى مباحثات سد النهضة من أجل ضمان مياه الزراعة والخير لمصر.
* كلية الزراعة جامعة القاهرة