بقلم الدكتور وجدى ثابت
كليّة الحقوق والعلوم السّياسيّة جامعة لاروشل، فرنسا
في جهل كامل بالتّاريخ الأوربي أكد الأزهر'>شيخ الأزهر أنَّ اعتناق الدّيانة المسيحيّة في الغرب تسبَّب في التّخلف والجهل، وعندما آمن الغربُ بالمسيحيّة في العُصور الوُسطى تخلَّفَ، وعندما ابتعد عنها دخلت عصر النّهضة وعصر التّنوير، بينما العكس هُوَ الصّحيح بالنّسبة للإسلام والمسلمين: فالمسلمون تقدَّموا في العصور الوُسطى إذ اقتربوا من الإسلام، وحين ابتعدوا عنه فارقهم التّقدم!
وردًا على ذلك أقول باختصار:
أَوَّلًا: لم تكن العُصور الوسطى الأوربيّة عصورَ اضمحلال كما هُوَ شائِع فقط عند الجهلاء العاجزين عن القراءة بلُغات الثّقافة الأصيلة؛ أيّ اللاتينيّة: كالإسبانية والإيطاليّة والفرنسيّة. فليس ذنبنا أنَّهم حدَّدوا ثقافتَهم واتساع معرفتهم في حدود لغة واحدة فقط، ولا يعرفوا أيَّ شيء عن الثّقافات الأخرى الّتي يتحدَّثون عنها. وعلى الرّغم من أنَّه يُقال إنّ الأزهر'>شيخ الأزهر حصل على درجة علميّة من فرنسا إلا أنّه -مثل غيره من المبعوثين- غير قادر على استيعاب جُذور الثّقافة الفرنسيّة ولغتها حتى الْيَوْم ولا حتى قادر على التّعبير بها بطلاقة. فلو قرأ شيخُ الأزهر لعرف أنّ العُصور الوُسطى في فرنسا -الّتي ارتبطت بالمسيحيّة- قد شهدت تشييد أكبر الكاتدرائيات، وتطوير فن وأُسس البناء والزّخرف المعماريّ من الطّراز القُوطي، وفن النّحت، كما شهدت تطويرًا هائلًا في تصنيع الماكينات الزّراعيّة لأَوَّل مرّة، وظهور إرهاصات التّصنيع و آليات الميكنة الأولى، ومنها الطّباعة في صُورة بدائيّة، و لا نغفل النّهضة العِلميّة غير العاديّة بالنّظر إلى الحقبة الّتي نشأت فيها أوّل جامعات في أوربا في القرن الخامِس عشر بفرنسا، هذا فضلا عن نشأة صُور جديدة من الأدب الفرنسيّ وكتابات باللاتينيّة أبرزت حجم الثّقافة والفلسفة الأوربيّة. وكان من أهم رموز هذه النهضة توماس الأكويني وهو من أكبر فلاسفة هذه الحقبة، وكان راهبًا في دير الدّومينيكان. فالحقبة المسيحيّة الّتي سيطرت على القرون الوسطى كانت حِقبة ثراء فكريّ وحضاريّ في أوربا على عكس ما هُوَ شائِع عند جُهال قومنا.
ثانياً. أمّا عصر النّهضة فيمكن تمييزه عن عصر النهضة الحديثة (من القرن الخامِس عشر إلى القرن الثّامن عشر). ففي عصر النّهضة كانت أوربا على مسيحيّتها لذا فإنّ مُعظم تابلوهات فناني تلك الحقبة تُعبِّر عن الفن المسيحيّ الذي ارتقى في ذلك الوقت لارتباطه بتمثيل الشّخصيات المسيحيّة. ويقع هذا الأمر على النّقيض التّام ممّا أكَّده الأزهر'>شيخ الأزهر. إنّها حقيقة تاريخيّة بديهيّة يعرفها الجميع في أوربا. تماماً كالحقيقة الّتي تليها: أنّ الّذي ثارت عليه أوربا في القرن الثّامن عشر (أيّ في عصر التّنوير وليس في عصر النّهضة) هُوَ سلطان الدّين داخل الدّولة، واختلاط الدّين بالسّياسة، وسطوة الكنيسة على نظام الحُكم، فطالَب الأوربيّون بضرورة الفَصْل بين الدّين والدّولة وأن يكون مصدر التّشريع هُوَ العقل الإنسانيّ وليس النصوص الدّينيّة وأن يكون العقل وحده هُوَ المصدر المُلهم للقانون وأن قواعد العدالة والقانون الطّبيعيّ يكشف عنها العقل وليس الدّين! هذا هُوَ عصر التّقدُّم الّذي شاد به فضيلة الشّيخ! فهل يرضى فضيلته بمثل هذه الأفكار في مصر! وإلا فيما كانت كُلّ تلك الحرب حول المادتيْن الثّانيّة والرّابعة من الدّستور المصريّ؟ أليست كُلّ هذه الأفكار هِيَ عكس ما يُنادى به الإسلاميّون بمن فيهم الأزهر'>شيخ الأزهر ذاته؟!
ثالثّا: حقيقة الأمر أن ما يعتقد به المُتحرِّرون الأوربيّون وأصحاب الفكر الراقي والرفيع هُوَ أنّ الدُّول الّتي تمرّدت على سياسة الكنيسة وسطوتها (وليس على الدّين المسيحيّ كما قرّر الشّيخ الطّيب في خَلطٍ معيب) وأدارت ظهرها للكنيسة "نمت وترعرعت". حقيقة الأمر، أنّ الدُّول الّتي لم تُرْهِب عُلماءَها بالدّين ولم تضع وصايّة عليهم بحُجّة حماية الدّين هِيَ الّتي نمت وتقدّمت. حقيقة الأمر، هِيَ أنّ المسيحيّة كانت في أوربا مصدرًا لإلهام الكُتّاب والمُفكّرين والفلاسفة. ألم يقرأ علماءُ الأزهر – قبل أن يحقّروا ما يجهلونه لا سيّما أولئك الّذين درسوا في فرنسا- أعمال الأديب جورج برنانوس ليعرفوا البُعد الْمَسِيحيّ فيها؟ ألم يقرأوا "مدينة الله" للفيلسوف أوغسطينوس ونظرياته في الحرب والجمهوريّة والعدالة؟! من أيِّ حقبة زمنيّة كان هذا الفيلسوف؟! ألم يقرأوا بليز باسكال وفكره الرّفيع، وحكمته الكبيرة، وتحليله الرّائع عن الإيمان وعن العقلانيّة؟! إنّه بسكال القائِل: الإيمان ليس ضِدَّ العقل وإنما فوق العقل! في أيِّ عصر كان باسكال يا مولانا الإمام؟ ألم يقرأوا جاك ماريتان ومؤلَّفه عن حقوق الإنسان والدّيمقراطيّة في الفِكر الْمَسِيحيّ الّذي صدر أثناء الحرب الكبرى؟!
رابعا: كانت دول أوروبا متعبّة من وعثاء الحرب الكُبرى لكنها نهضت على أكتاف مُفكِّرين مسيحيّين أمثال من سَبَقَ ذِكرهم. للأسف، لم يقرأ مُثقفونا شيئًا ممّا كَتَبه هؤلاء العمالقة واكتفوا بترهات الكلام الغَثّ حول جواز أكل لحوم البشر، وقتل تارك الصّلاة، وخلافه! ومن جانِب آخر، لا أعتقد أبدًا أنَّ البلاد الإسلاميّة قد ابتعدت عن رُوح الإسلام ونُصوصه في الوقت الحاضِر. على العكس، إنّنا لا نكاد نشهد عَصرًا قامت فيه حركات إسلاميّة أكثر من هذا العصر إذ الإسلام يعيش في أيامنا هذه أكثر العصور سطوة. إنّ ارتباط المسلمين بدينهم حاليًا يتناسب تناسُبًا عكسيًّا مع التّقدم الّذي تحدّث عنه الشّيخ الطّيب. فاليوم نشهد قُوّة ضغط وتأثير الدّين الإسلاميّ على ثقافة الشعوب وسلوكها، وأَيْضًا على القرار السّياسيّ لدى هذه الشعوب. ومع ذلك فبلادنا من أكثر البلاد تخلُّفًا وفسادًا، وكأن الاقتراب من الإسلام يُؤدى الى نتيجة عكسيّة تمامًا وعلى النقيض الكامِل ممّا يقول الشّيخ الطّيب. أقصد هُنا أن الإسلام السّياسيّ في مصر يُشبه إلى حَدٍّ كبير تجربة فرنسا مع الثّورة الفرنسيّة الّتي أطاحت بسُلطة الكنيسة والدّين بسبب الخراب والظلم البيّن الذي نتج عن طيش جامح من بعض رجال الدّين.
خامِسًا: أمّا حقيقة ما حدث في الغرب فهو أنَّ العلماء والمُفكِّرين انفصلوا عن الفكر الدّيني وفكّروا بحُريّة دُون خشيّة التّكفير كما يحدث عندنا، ودون الخوف من تُهمة ازدراء الأديان كما يحدث عندنا أيْضًا، والنّتيجة أنّهم تعلّموا من أخطائهم ونموا وارتقوا حين خرجوا عن وصاية رجُل الدّين، فقبلوا فِكرة المساواة في الكرامة والعلم والمعرفة وقُدرة العقل البشريّ على التّعرف على القِيم بلا وسيط خارجيّ. هذا، كما لا يجب أن نغفل الاضطهاد الّذي لاقاه فلاسفة وعُلماء المسلمين في القُرون الوُسطى من قُوى ظلاميّة تمامًا كتلك الّتي نعرفها الْيَوْم في مصر. ولا يمكن أن نغفل الحرب الشرسة الّتي تعرّض لها هؤلاء العلماء من أرباب الرّأي الفاسد والفكر المريض. فإذا ما اجتهد باحثٌ في تعريب مصطلح أو تأصيل مُقترح فهُمْ بما يقول مُستهزئون! ألا يتدبَّرون الحق؟! ألا ساء ما يحكمون!
خِتامًا، إنَّ الدّاء القاتِل في مصر هُوَ انعدام الرّغبة في التّعلُّم وتقصّي الحقيقة والخوف منها والتّمسُّك بالخطأ الشّائِع وتفضيله على الصّواب المهجور، من أجل حماية كبرياء زائِف أو في سبيل زهو فارغ والتّشدق بماضٍ قد درس كُلّ من صنعوا أمجاده اضطهدوا وشنَّت عليهم أنكى الحُروب وأكثرها خِسّة. كفى عَبثًا بعُقول المصريّين. كفى عَبثًا بالتّاريخ! أحمدُ الله أنَّني قضيتُ اللوّامة رغدًا وأدّيتُ الأمانة سددًا وما اتخذتُ المُضلِّين عَضدًا.