بقلم المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي سورية
عندما زرتُ المقابر لأول مرةً - لسببٍ لستُ أذكره، بدأتُ أقرأ أسماء الموتى على القبور، وكنتُ أربط أسماء عائلاتهم بأسماءِ أصدقائي المسيحيين، فأسألهم بعدها عن موتاهم، وفهمتُ أن المقابر بغالبيتها هي حسب القول "أهلية محلية" فالكلّ يعرف الكل. وانتابني إحساس بالراحة لم أفهمه حينها، لكنه قد يكون بسبب اطمئناني أن في المستقبل - وأرجوه بعيداً - لن أكون مدفوناً بين غرباء.
هاجَرَ من هاجَرَ - من أهل حلب - بسببِ هذه الحرب المجنونة وغادر مدينته وحيطان أبنيتها وأرصفة شوارعها وأحيائها، هرباً من جنون القذائف وخوفاً من مستقبلٍ مجهول ومن تهديدات تنادي بتهجير المسيحيين تحديداً الى بيروت.
لكن هذا المكوِّن المسيحي توقف في بيروت لالتقاط الأنفاس ثم تشتَّت في أصقاع العالم.
أنا لا ألومُ أحداً، فلكلِّ إنسان خياراته، كما أنني لا أدَّعي البطولة ببقائي في حلب، لأن الأمر بكل بساطة أني أخافُ أن يتمّ دفني - بعد عمر طويل - في أرضٍ غريبةٍ وبين موتى لا أعرفهم.
أنا من الأشخاص الذين يحبون الناس، فعندما أسيرُ في شوارع مدينتي أو أذهبُ الى أماكن متعددة، تنتابني البهجة عندما يُسلَّم وأسلِّم على الكثير.
لا أتخيل نفسي أني أستطيعُ العيش في بلد لا يعرفني ناسه وأرصفته.
في حلب ... هذه المدينة التي عاشت مع التاريخ، يعرفني الناس وأعرفهم.
أرصفتها وحجارتها تعرفني.
شوارعها ...
مزاريب أسطحتها ...
باعتها المتجولون مع عَرَباتهم الممتلئة بالخضار والفواكه
ماسحو السيارات والأحذية
أشجارها المهملة وحدائقها
عمال نظافتها وعناصر شرطة المرور فيها
حتى ذبابها وبعوضها أصبحت معتاداً عليه
كيف لي أن أموت في مدينة ليست لي بها كل هذه الذكريات؟
ليس لي في مقابرها اقربائي واصدقائي؟
أكيد أن الكثير من المدن أجمل منها
لكن كما أن الكثير من الأمهات أجمل وأحسن وأكثر ثقافة من أمي ... لكني أحب امي.
سورية بكل أرضها ومدنها هي مثل أمي
أحبها ... وكفى ...
لأجل كل ذلك ... لم أغادر
اللهم اشهد اني بلغت