الكاتب
جديد الموقع
الطبلية أساس الديمقراطية
بقلم: دولا أندراوس
صغيرة وقصيرة جدًا حتى أنها تكاد تلامس الأرض، تقبع في منتصف الحجرة كحائل أو كعقبة لا لزوم لها، ولكن ما أن تأذن ساعة الطعام حتى تأخذ الطبلية أهميتها التي تليق بها، فيهرع نحوها كل من في البيت توقًا لا للطعام فحسب وإنما لساعة من الساعات الجميلة القليلة التي يستمتع فيها الكل بحرارة الدفء العائلي، والتي تحفر في الوجدان آثارًا لا تُمحى مهما عبر عليها من زمن.
وحول الطبلية إلتف معظم المصريين، فأكلوا وشربوا وذاكروا وتعلموا التقاليد، ولا أقصد هنا تقاليد تناول الطعام فحسب وإنما تقاليد المحبة والاحترام وتقدير الغير. تعلَّموا انتظار المتأخر وإفساح المكان للضيف وتجنيب نصيب للغائب. تعلَّموا الكرم والإيثار وضبط النفس، وفوق هذا كله تعلموا الديمقراطية.. فحول الطبلية الكل يشارك في الحوار، والكل يدلي برأيه أيًا كان سنه وأيًا كانت مكانته. كم من حكايا رويت وكم من آراء تبودلت وكم من مشاكل حُلت في تلك الجلسات الحميمة التي اختلطت فيها الإيادي، كبيرها مع صغيرها، ولهجت فيها الشفاه بحمد الله على البركة ونعمة اللمة.
ولا يسعنا بالطبع أن نتكلم عن الطبلية والديمقراطية دون أن تنبري لنا صورة المستبد الغضوب السيد "أحمد عبد الجواد" من ثلاثية "نجيب محفوظ" الخالدة لتصوغ ملامح رب الأسرة الدكتاتور الذي لا يحترم أحدًا ممن يقعون تحت سلطته، فالاحترام حكر عليه وحده، ومجرد الرغبة عن الإذعان لمشيئته جريمة لا تُغتفر. وفي مشهد الطبلية الشهير يجلس سي السيد وسط الذكور من أبنائه، مميزًا في صلافة الذكور عن الإناث، بينما يقف النساء في الخلف قائمات بدور الجواري يخدموهم إلى أن ينتهوا من إفطارهم حتى يتسنى لهن الأكل فيما بعد. هذه هي إحدى صور الطبلية في الأدب العربي.
أما الأدب الغربي، فقد اقتبس الطبلية في حكايات الملك "آرثر وفرسان المائدة المستديرة"، وقيل أن الملك "آرثر" أمر بصنع مائدة هائلة الحجم ليجلس حولها مع كل فرسان بلاطه لتداول شئون المملكة، وأنه أمر بصنعها مستديرة ليتلافى الخلافات التي قد تحدث بين فرسانه حول أيهم أعلى منصبًا أو أهم شأنًا، بل أراد أن يشعرهم أن الكل سواسية حول تلك الدائرة التي صارت عنوانًا للديمقراطية. فهي لا رأس لها ليجلس عليه سيد القوم ولا آخر لها ليجلس عليه خادمهم، الكل يعتلون نفس المقام ويحتلون نفس المرتبة.
وقد ولَّى زمن الملك "آرثر" لنستقبل، بعده بأحقاب، زمان التحضر والرقي، ومضى عصر الطبلية لتحل محلها ترابيزة السفرة العالية الفخمة، ولنعتد تناول الطعام بالشوكة والسكين، ولنتعلم تقاليد الشياكة والتحضر. فهل فعلاً تحضرنا؟ وهل فعلاً تقوَّمت شخصياتنا وتهذَّبت سلوكياتنا؟ أم أن الفارق الوحيد بين التخلف والتحضر هو حجم الكعكة؟ وإنه مادامت هناك أنصبة تكفي الكل ظلت الخلافات في القاع وأمكن التغلب عليها، أما إذا لم يتبق من الكعكة سوى الفتات ففي هذه الحالة تطفو الخلافات على السطح ويضطر الأطراف المتنازعون إلى نزع الأقنعة والكشف عن وجوههم الحقيقية.
الحقيقة أننا لم نعد ندري ما حجم الكعكة في "مصر" اليوم، ولو حتى على وجه التقريب، نتيجة للتضليل الذي عشنا فيه طويلاً ولازلنا، إلا أنه من المؤكَّد أن الكثيرين ممن على الساحة السياسية قد أُصيبوا بجشع وشراهة يتنافيان مع أخلاق الطبلية. فالكل يريد أن يهبش وينهش قبل غيره، والكسبان هو من يفوز بنصيب دون الآخرين، وكأننا عدنا لأزمنة الغاب، وكأن سنينًا من التحضر بكل أسف لم تكن. أما آن لكِ يا مصر يا من ابتدعتِ الطبلية أن تنعمي بزمن الديمقراطية الحقة ولو إلى حين؟ أم أننا نجونا من فخ دكتاتورية بوليسية غاشمة لنقع في أغلال دكتاتورية دينية انتهازية؟
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :