منى مكرم عبيد
مراكز الفكر أو التفكير تستهدف توجيه صانعى ومتخذى القرار إلى حلول أو رؤى معينة لمشكلة ما، أى أنها تنخرط فى صنع القرار السياسى، ونظرًا لعدم وجود هذه المؤسسات الفاعلة فى بلادنا، ما كان مجتمعنا تعرض لكثير من الأزمات، ولا وقع الإعلام فى «حيص بيص»، وشغل ساعات الهواء فى تحليلات كلامية دون مضمون. كلنا رأينا على مدى السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ ٢٥ يناير ٢٠١١، مسميات مثل «محلل استراتيجى»، «خبير أمنى»، وغيرهما من المسميات التى كانت تنتشر فى الشاشات المصرية لتحليل الأوضاع التى مر بها المجتمع.. يأتى ذلك فى الوقت الذى كانت تشتعل فيه منطقتنا العربية بكثير من التطورات، إلى جانب استغلال إثيوبيا للشأن المصرى الداخلى والشروع فى بناء سد النهضة حتى أصبح أمرًا واقعًا.
لو كانت لدينا مراكز فكر فعالة، لظهرت تحليلاتها ودراستها العميقة وسيناريوهات المستقبل، فالأمر لا يتعلق بتحليل وضع قائم، فهذا من ضمن مهام المراكز البحثية، وإنما الإبداع والخيال فى الأحداث يضع كل السيناريوهات المتاحة أمام صناع القرار، وبالتالى الاستعداد بخطوات مدروسة فى توقيتات محسوبة.
مثلاً، سد النهضة الإثيوبى كان حلمًا صعب المنال للأشقاء فى إثيوبيا، ولم تكن هناك إمكانية للشروع فيه ما لم تكن هناك موافقة صريحة من مصر، وللأسف تم استغلال انشغال المجتمع المصرى فى ثورة يناير ٢٠١١، ثم ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، واستعادة الدولة من السقوط فى قبضة الإخوان، وما تلى ذلك من إعادة بناء المؤسسات وتطوير البنية التحتية والإصلاح الاقتصادى، كانت إثيوبيا انتهت من بناء قواعد السد وأصبحت تتفاوض وسط مراوغة سياسية حول فترات امتلاء السد، ولولا حفاظ مصر وإثيوبيا على الروابط بين الشعبين رغم كل الخلافات، لكنا شهدنا إشكالية كبيرة.
لذا لم تكن هناك دراسات أو سيناريوهات بناء السد، وظل الأمر مجرد فكر على ورق، ولم يضف أحد أى سيناريوهات يمكن التعامل معها قبل بناء السد، ولا بعده، وبالتالى وجدت القيادة المصرية نفسها فى موقف حرج، وعليها أن تتبع سياسة النَفَس الطويل واستغلال كل الخيارات السياسية المتاحة. مثال آخر، لا أستبعد تهافت الدول الغربية على تدعيم تيارات لها بالشرق الأوسط إبان ما عرف بثورات الربيع العربى، حيث تم نهب بترول سوريا والعراق، والانقضاض على الغاز الليبى، وتقاسمت بعض الدول حصصها من هذه الثروات، فى الوقت الذى تعانى فيه الشعوب من غياب الخدمات والدعم اللازم لمساعدتها على المعيشة، بالرغم من توافر ثروات تكفيها.
ونظرًا لعدم وجود دراسات أو جرس إنذار يحذر قادة وشعوب المنطقة من مثل هذه المخاطر، وقعت الشعوب أسيرة أحلام التغيير دون دراسة، واستغلت أطراف ما الموقف لبث سمومها وتأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية، واختلطت الأهداف النبيلة للتغيير نحو الحرية والتنمية والديمقراطية مع الأهداف الشريرة من حيث سرقة الأوطان ونهبها وغسيل العقول، وبالتالى فقدت القيادات العربية حنكة تقدير الموقف، لترهلها وبقائها فى موقعها بالسلطة أكثر مما تستحق، حتى سقط الجميع فى الفخ!. مثال ثالث، استغلت تركيا الأزمة السورية ومحاولة تحقيق أكبر مكاسب ممكنة، تاجرت بقضية اللاجئين مع الاتحاد الأوروبى، وحصلت على عدة مليارات من اليورو، وفى نفس الوقت كانت تتدخل عسكريًّا فى سوريا لبسط نفوذ لها واستغلال ذلك سياسيًّا من أجل القبول بها كطرف فاعل فى الأزمة السورية، وكذلك تبادل المصالح مع روسيا ودول خليجية، بل وصل بها الحال لتدعيم الإرهابيين والعناصر المسلحة، حتى حاولت بتكرار النموذج السورى فى ليبيا خلق مناطق صراع جديدة فى ليبيا وتصدير أزمات لمصر على الحدود الغربية. كل هذه التطورات ليست وليدة اللحظة من كل الأطراف، وإنما هناك من يخطط لافتعال أزمات للسطو على ثروات الدول ونهبها، وفى الوقت نفسه هناك دول أخرى تستغل هذه التطورات لصالحها بناء على خطط موضوعة فى مثل هذه المواقف، بينما العامل المشترك فى كل ما سبق هو رد الفعل العربى الذى يكون فى موقف بطىء وغير مؤهل، ويفتقر إلى الأدوات التى تسمح له باقتحام مناطق الصراع وفق منطق الأمن القومى، ولا تتوافر لصناع القرار أى سيناريوهات متاحة تسمح بتغيير قواعد اللعبة، والاكتفاء بأفكار من السياسيين قد تنفع وتصبح جزءًا من الحل، وقد تعمق المشكلة، حتى أصبح المواطن العربى تحت التجربة!.
ماذا بعد داعش؟، ما مصير اتفاقيات الغاز فى المتوسط؟، ما سيناريوهات الأزمة الليبية.. الأوضاع فى السودان.. إفريقيا 2050 كيف ستكون؟.. كلها أفكار يمكن أن تظهر عنها دراسات مستقبلًا، لكن كان يهمّنا أن تكون هذه القضايا من سيناريوهات تكشفها مراكز الفكر، وهذا هو الفرق بينها وبين مراكز الدراسات التى تحلل أوضاعًا قائمة. تحدثنا كثيرًا فى هذا الأمر وطالبنا بمثل هذه المراكز، وسبق أن كان لدينا المركز الدولى للدراسات المستقبلية، كنت عضوًا بمجلس الأمناء، وقدمنا أفكارًا ثرية كثيرة ودراسات شافية للتغيرات فى الشرق الأوسط، وكانت تجمعنى برئيسه الراحل اللواء أحمد فخر زمالة قوية، وأصدرت معهم كتابًا حول مبدأ المواطنة، ولكن بعد ثورة يناير اختفى المركز ونشاطه، وفقدنا مكانًا مهمًّا كان يمكن أن يكون مرجعًا فى هذه المرحلة الحرجة التى مرت بها المنطقة وبلادنا.
* برلمانية سابقة وأستاذ العلوم السياسية
نقلا عن المصرى اليوم