الأنبا إرميا
استكملنا الحديث بمقالة سابقة عن الغلاء العظيم الذى حل بـ«مِصر» وأهلها، والذى أرجع بعض المؤرخين أسبابه إلى الفتنة التى دبت بين الأتراك والعبيد، والتى وصفها «المقريزى» بأنها فتنة عظيمة سببت خراب «مِصر»؛ إضافة إلى تزامن تلك الأحداث والمعارك مع قلة مياه «النيل» ما أثر سلبًا بالبلاد.
أسند «المستنصر» شُؤون الوَزارة إلى «أبى مُحمد الحسن اليازورى»، عام 441هـ (1049م) [وقيل 442هـ (1050م)]، الذى وُلد فى «يازور» فى «الرَّمْلة» بـ«فِلَسطين»، وكان والده قاضيًا بها فخلفه فى القضاء بعد أن تُوُفى. ثم عُزل «اليازورى» عن القضاء فى «الرَّمْلة»؛ فقدِم إلى «مِصر» آملاً فى استعادة منصبه بـ«الرَّمْلة»؛ وطفِق يتقرب إلى كبار رجال الدولة، إلا أنه لم يتمكن إلا من العمل بديوان أُم الخليفة «المستنصر بالله الفاطمىّ» عام 439 هـ (1047م). تقدم «اليازورى» فى الوظائف إلى أن صار «قاضى القضاة»، وأخذ نفوذه يتعاظم حتى عُهد إليه بالوَزارة. وقد تعددت ألقاب «اليازورى»، منها: «سيد الوزراء»، «الوزير الأجَلّ والمكين» (العظيم المكانة)، و«تاج الأصفياء»، و«داعى الدعاة». وازداد نفوذ «اليازورى» حتى إن اسمه ضُرب على العملة مع اسم الخليفة؛ وظل فى منصبه حتى عام 450هـ (1058م) إذ أمر «المستنصر» بالقبض عليه ونفيه إلى «تِنِّيس»، ثم قتله. وقد تعددت آراء المؤرخين فى أسباب قتل «اليازورى»، منها: اتهام «المستنصر» له أنه كان يراسل «طُغْرُلْبِك السَِّلـﭽوقىّ» داعيًا إياه إلى غزو «مِصر»، وخوف «المستنصر بالله الفاطمىّ» من ازدياد نفوذ «اليازورى» وسلطانه ما دعاه إلى التخلص منه.
وقد أشار بعض المؤرخين والباحثين إلى دور «اليازورى» فى الدولة الفاطمية وخاصة فى فترة هبوط منسوب مياه «النيل» عام 440هـ (1048م) وتفشى المجاعة بـ«مِصر»؛ فقيل إنه استولى على مخازن الغلال ووزع ما فيها على أهل البلاد. أمّا عن الأحوال السياسية، فقد كانت الفتنة بين الأتراك والعبيد آخذة فى الاشتعال؛ فعمِل جاهدًا على إخمادها ونجح إلى حد ما، لٰكنها عادت أشد بعد موته إذ لم يعالج أسبابها؛ فأدت إلى الخراب الذى حل بـ«مِصر». كذٰلك قضى على تمرد قبيلة «بنى قُرّة» التى استقرت فى «البحيرة» قرب «الإسكندرية» إذ قاتلها فهربت إلى «بَرْقة»؛ وفى ذٰلك كتب «المقريزى» يقول: «إن كل من بالحضرة كان ينتقد رأى الوزير فى تجهيز العساكر إليهم، ويحكمون بأنهم لا يفارقون «البحيرة»، فجاء الأمر بخلاف ظنهم». ثم جلب قبيلة «سِنبِس» من «فلسطين» ومكنها من أرض «قيس» وبذٰلك قطع على قبيلة «قيس» إمكانية العودة إلى «مِصر» إذ كانت فى عداوة شديدة مع قبيلة «سِنبِس». وكانت له جهود فى السياسة الخارجية أيضًا.
ويذكر المؤرخون الكنسيُّون أن «اليازورى» كان يكن كراهية شديدة للمَسيحيِّين عمومًا والأقباط خصوصًا لميل الخليفة إليهم؛ فتحيّن الفرصة للإيقاع والتنكيل بهم، حتى جاءته عندما بلغته أخبار بأن كنائس جديدة قد شيدت؛ فأمر بتهديمها، بل بإغلاق جميع الكنائس فى القطر المِصرىّ!! فثارت ثائرة المَسيحيِّين فيذكر لنا «القَسّ مَنَسَّى يوحنا»: «فثار المَسيحيُّون، وكادت تقع الفتنة لولا أن الخليفة قبض على ذٰلك الوزير، ونفاه إلى جهة «تانيس» بأقصى الوجه البحرىّ، وبعد ذٰلك قتله...». ويذكر آخرون بأن بعضًا حاول الإيقاع بين «البابا اخرِستوذلوس» والخليفة؛ فادعوا أن البابا بنى عشرين كنيسة جديدة فى مِنطَقة «دَمْرو» («المحلة الكبرى»)؛ ولم يتريث الوزير «اليازورى» فى التحقق من الأمر، فأمر بتهديم الكنائس الجديدة، وإغلاق القديمة فى «مِصر»؛ وأثار ذٰلك العمل أنفس الأقباط وشاركهم مشاعرهم إخوتهم المسلمون العقلاء، وخاصة بعد اندلاع فتن شديدة قرب «الأشمونين» أودت بحياة رهبان «دير الشهيد أبانوب».
* الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم