محمود العلايلي
فى عام 1989 كتب فرانسيس فوكوياما: «إن تاريخ الأفكار قد انتهى، وكذلك شأن الجدل الأيديولوجى وذلك لأن الديمقراطية الليبرالية بقيمها عن الحرية، الفردية المساواة، السيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تشكل مرحلة نهاية التطور الأيديولوجى للإنسان، وبالتالى عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغة نهائية للحكومة البشرية».
ومنذ ذلك الحين صار نموذج الديمقراطية الليبرالية، أو الديمقراطية الغربية فى تعريف آخر، هى المرجعية دائما، ربما لأن الإعلان جاء عقب الهزيمة المدوية للشيوعية وخلو الساحة الدولية من تيار مضاد مباشر، ويمكن لأن الأنظمة الأخرى لم يتم التنظير لها بالقدر الكافى، أو أن الديمقراطية الغربية تم التنظير لها بكثافة وبلغات سهلة التناول والترجمة، بالإضافة إلى التأثير الإعلامى الواسع والاقتصادى المؤثر من جانب الولايات المتحدة، والتأثير الحضارى والسياسى من خلال النموذج الأوروبى.
إن اقتران فكرة سيادة الديمقراطية الليبرالية مع فكرة انتهاء تاريخ الأفكار يحملان تناقضا واضحا، لأن الديمقراطية والليبرالية يحملان فى ذاتهما مبادئ التغيير والتنوع ورفض الطرح الراديكالى، وهو ما يتنافى مع طرح «انتهاء تاريخ الأفكار»، لأننا حتى لو اتفقنا أن الديمقراطية ستظل أفضل القواعد فإن النظم السياسية لا تقتصر على الديمقراطية الليبرالية وصراعها ضد الشيوعية، لأن نجاح أى نظام سياسى ليس فى نجاح تطبيق النظام ولكن فى تأثير تطبيق النظام على حياة المواطنين ومستوى معيشتهم، ففى سويسرا مثلا نظام أقرب إلى الديمقراطية المباشرة غير الديمقراطية التمثيلية المطبقة فى دول الاتحاد الأوروبى، بينما فى روسيا لم تكن هناك تجارب حقيقية مع الديمقراطية، وإنما تم تبنى النمط الأمريكى اللاتينى الذى يرتكز على التحالف بين الجيش ومراكز السلطة الاقتصادية، أما الصين فقد أيقنت فى لحظة تاريخية معينة أنها دولة متأخرة، ولهذا قرروا أنهم يحتاجون حكومة متسلطة ولكن مستنيرة، ولذلك احتكر الحزب الشيوعى فكرة القيام بثورة رأسمالية، لتخرج الصين على العالم بنموذج الدولة الواحدة ونظامين.
والواقع أن أغلب الممارسة الاقتصادية فى الديمقراطيات الليبرالية تتشكل على هيئة موجات متبادلة بين اليمين واليسار، ففى زمن حكم الاشتراكيين أو الديمقراطيين الاجتماعيين تتعالى أصوات الرأسماليين والليبراليين، وفى وقت حكم الرأسماليين تطالب الشعوب بتحقيق وعود الاشتراكية والشيوعية، ويأتى حكم الاشتراكيين لتعديل بعض الأوضاع الاجتماعية المترتبة على الحكم الرأسمالى، بينما يأتى الحكم الرأسمالى ليجرى تعديلات على البنية الهيكلية الحكومية ولزيادة معدلات الثروة التى استهلكها الاشتراكيون، وإذا كان الاشتراكيون يدعون أن بإمكانهم الوصول لمجتمع الرفاه حال وجود قاعدة اقتصادية ثابتة ومستقرة، فإن الرأسماليين هم الذين لديهم القدرة على صنع هذه القاعدة.
أما القاعدة الذهبية للاستقرار على أى نظام سياسى فهو التوافق الداخلى عليه، لأن ذلك هو ما يسبغ عليه شرعيته وبالتالى يضمن تطبيقه، لأنه بالتجربة العملية لم يثبت على وجه التحديد أفضل نظام، وإنما ثبت بدون شك أهمية أن يكون هناك نظام، ويجب أن يتميز بوضوح المبادئ وجلاء الآليات، إضافة إلى انطباق مسماه على تنفيذه، لأن على أساسه تدار الدولة، وتتشكل علاقة المواطنين بالمواطنين من ناحية، وعلاقتهم بالدولة من ناحية أخرى، بغض النظر عن تسويق النظام خارجيا، ولكن الأهم دائما توافق المواطنين وفهمهم داخليا.
وبينما نعيش الواقع السياسى فى 2020، نتساءل إن كانت دول العالم المختلفة- بأنظمتها السياسية المتباينة- قد أعدت نفسها للنظم السياسية التى ستمليها تكنولوجيا قواعد البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعى، وإن كانت الديمقراطية الليبرالية ستكون لها القدرة على النجاة، أم سيقع العالم فى دورات من الفوضى جراء التأثير المباشر للأفراد على منصات التواصل الاجتماعى، والأساليب المستحدثة فى التأثير على العقل الجمعى وتحريك الجماهير؟ والأهم من ذلك كله آليات اتخاذ القرارات وتنفيذها، مما يؤكد أن تاريخ الأفكار والجدل الأيديولوجى لم ينتهيا بعد، إنما يستندان على قواعد جديدة تماما بأسس غير التى تحدث عنها فوكوياما فى الزمن السحيق 1989.
نقلا عن المصري اليوم