مع اقتراب موعد الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، برزت قمة "أفريقيا بريطانيا للاستثمار"، التي عقدت أوئل الأسبوع الجاري في لندن، كأحد أهم الخطوات التي تتخذها بريطانيا لتعزيز الشراكة مع القارة الأفريقية وخلق علاقات تجارية جديدة يمكن أن تعوض الخروج البريطاني من التكتل الأوروبي، أو ما يعرف بـ "بريكست"، والمقرر تنفيذه رسميا في 31 من يناير الجاري.
وخلال القمة، التي حضرها نحو 21 دولة أفريقية؛ على رأسهم مصر، أكد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون حرصه على أن يجعل بريطانيا "شريك الاستثمار المفضل للدول الأفريقية"، مشددا على سعي بلاده لإبرام شراكة كاملة مع الدول الأفريقية من أجل تحقيق تنمية وزيادة الاستثمارات البريطانية في أفريقيا بجميع المجالات.
كما تم توقيع عدد من الاتفاقيات التجارية بقيمة إجمالية تقدر 7.6 مليار يورو في مجالات متعددة، من أهمها التكنولوجيا والبنية التحتية والطاقة وتجارة التجزئة، وتهدف إلى تعزيز الاستثمارات وخلق فرص عمل في كل من بريطانيا وأفريقيا.
ومع بدء العد التنازلي لوقوع "بريكست"، تسعى بريطانيا إلى تعزيز مكانتها كوجهة استثمارية متميزة وخلق شركاء تجاريين جدد بعيدا عن دول التكتل الأوروبي. وتمثل أفريقيا فرصة مناسبة لتحقيق الأهداف البريطانية خلال المرحلة المقبلة، حيث نجحت القارة السمراء في تحقيق معدلات هائلة من النمو في السنوات الأخيرة، وهو ما دفع جونسون للقول إن "أفريقيا هي المستقبل، وبريطانيا اختارت أن تلعب دورًا إيجابيًّا في ذلك المستقبل".
وذكر تقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" أن الاستثمار في أفريقيا حقق زيادة بلغت نسبتها 2% وحقق نحو 49 مليار دولار. فضلا عن ذلك، تمتلك القارة الأفريقية العديد من الثروات الطبيعية الغنية فهى تستحوذ على 12% من الاحتياطي العالمي للنفط، و42% من مكامن الذهب، و19% من اليورانيوم، و45% من التيتانيوم، كما تغطي القارة أكثر من 50% من إجمالي الطلب العالمي على الألماس.
ومن الملاحظ أن الاهتمام البريطاني بأفريقيا قد برز في أعقاب الزيارة التي قامت بها رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، تيريزا ماي، إلى القارة السمراء عام 2018 والتي أعلنت خلالها عن رغبتها في أن " تكون المملكة المتحدة بحلول عام 2022 المستثمر الأول بين مجموعة الدول السبع في أفريقيا"، متعهدة بإعطاء الأولوية لاستثمارات بلادها في أفريقيا وخلق شراكات جديدة قائمة على الازدهار والأمن المشترك.
وعلى مدار العام الماضي، عينت بريطانيا 400 موظف لمناصب التجارة والأمن والتنمية عبر شبكتها الدبلوماسية الإفريقية، وفقًا لما أعلنته إيما وايد سميث، مفوضة ملكة بريطانيا للتجارة مع أفريقيا، والتي أكدت أن هذه التعيينات كانت تهدف إلى توسيع النفوذ البريطاني داخل القارة السمراء وتعزيز أوجه التعاون المشترك.
إضافة لذلك وصل حجم التجارة بين بريطانيا وأفريقيا إلى أكثر من 33 مليار جنيه استرليني عام 2018، بينما زاد عدد الشركات البريطانية العاملة بالأسواق الأفريقية إلى حوالي 2000 شركة، وارتفع حجم الاستثمارات البريطانية بالقارة إلى نحو 18،83 مليار جنيه استرليني العام الماضي، وساهمت بريطانيا في خلق 370 ألف وظيفة في القارة الأفريقية.
والواقع أنه منذ إجراء استفتاء "بريكست" في يونيو 2016، والذي صوت فيه 52% من البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوربي، تزايدت حالة عدم اليقين على الساحة البريطانية في ظل غموض العلاقات المستقبلية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وهو ما أثر سلبا على المؤشرات الاقتصادية للبلاد.
ورغم تميز بريطانيا في قدرتها على جذب الاستثمارات الخارجية إلا أن وقوع "بريكست" شكل تهديدا لهذه القدرة. فعلى مدار العقود الأربعة الماضية نجحت المملكة المتحدة في جذب استثمارات كبيرة القيمة بفضل البيئة المحفزة للأعمال، وقدرة الشركات الأجنبية العاملة فى بريطانيا على بيع السلع والخدمات إلى باقى دول الاتحاد الأوروبى، غير أن الملحوظ أنه منذ وقوع استفتاء الانفصال هناك انخفاض ملحوظ في فرص العمل ورأس المال الأجنبي في البلاد.
في هذا السياق أعلن وزير الخزانة البريطاني، ساجد جاويد، أن قطاعات الأعمال البريطانية ستعاني نتيجة وقوع “بريكست” وأنه بعد نهاية الفترة الانتقالية في ديسمبر 2020 لن تتماشى اللوائح البريطانية مع لوائح الاتحاد الأوروبي في المستقبل، وهذه التغيرات من شأنها أن تضر ببعض الأعمال التجارية.
وأظهرت بيانات وزارة التجارة الدولية البريطانية، الصادرة فى يونيو الماضى، انخفاض عدد المشروعات الجديدة وعمليات الدمج والاستحواذ التى شاركت فيها الشركات الأجنبية فى المملكة المتحدة بنسبة %14 لتصل إلى أدنى مستوياتها فى 6 أعوام.
كما أفاد تقرير صادر عن إحدى شركات المحاسبة الدولية أن مستثمرًا واحدًا من كل خمسة مستثمرين أجانب، قام إما بإلغاء أو تعليق خططه للاستثمار فى المملكة المتحدة منذ استفتاء مغادرة الاتحاد الأوروبى، وذلك في ضوء استمرار حالة عدم اليقين التي شهدتها البلاد خلال الأعوام الثلاثة الماضية والتي قادت المستثمرين للانتقال إلى أماكن أخرى، لاسيما في ظل تعقد مفاوضات الخروج.
وحذر خبراء الاقتصاد من أن تراجع الاستثمار الأجنبى قد يضر بالجهود المبذولة لتعزيز النمو الاقتصادى عن طريق تحسين الأداء الضعيف للإنتاجية فى البلاد.
إضافة لذلك، أفادت بيانات نشرتها جريدة "فاينانشيال تايمز" انخفاض أعداد الوظائف البريطانية فى قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، الناتجة عن الاستثمارات الواردة فى المشروعات الجديدة، بنسبة 47% خلال الثلاثة أعوام الماضىة، مقارنة بالفترة ذاتها قبل استفتاء الخروج فى 2016، فضلا عن انخفاض عدد الوظائف الصناعية الناتجة عن الاستثمارات اﻷجنبية، والتي وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2003.
في ضوء المشهد السابق اعتبر فريق واسع من المراقبين أن بريطانيا اتخذت نهجا سليما بعقد هذه القمة والتوجه إلى القارة الأفريقية والتي ستتيح لها مجالا جيدا لخلق شراكات جديدة ودائمة ستقود إلى المزيد من الاستثمار والوظائف والنمو لمواجهة التحديات المنتظرة بعد مغادرة التكتل الأوروبي بعد 47 عاما من الارتباط.