الاب أثناسيوس حنين
تعيد الكنيسة فى جناحيها القبطى المصرى واليونانى البيزنطى لعمودين من أعمدة الروحانية المسيحية قاطبة ’ وهم العظيمان انطونيوس واثناسيوس (يناير ومايو)’ وقد قيل ويقال الكثير عن تقوى الرجلين وصبرهم على الشدائد وحفظهم للايمان المستقيم وما شابه ذلك ’ ولكن ما أغفلته الكثير من الكتابات الشعبوية والتقوية هو أعماق هذا اللقاء الخفية والمستترة فى اللوغوس -المسيح والنازلة من الأب بالروح النارى القدوس والتى أعادت رسم خريطة الثقافة الكونية يومها والتى تصدرتها مصر واليونان بحضارتهما القديمة الأيام والتى علمت المسكونة .ويرى بيتر براون المتخصص فى تاريخ القرون الاولى (The Making of Late Antiquity ,Harvard University Press , 1979 , p.39-41)’ بأن العالم اشتاق وقتها الى ظهور (القديس) المتجسد فى هموم الناس والذى يستمطر مراحم السماء بشكل (فيزيقى ) بعد أن مل الناس (الميتافيزيقيا ) ’ ومسالم بعد أن ضجر العالم من الحروب وومتواضع وعالم بعد أن مل الناس من العروش والكبرياء الجاهل ! لم يكن مجرد لقاء تقوى ودود لفائدة شخصية وفردية ’ كما لم يكن صدام حضارات ’ فى زمان تفنن الكثيرون فى خلق الصدامات وبناء السدود ’ أبدع اثناسيوس وانطونيوس فى بناء الجسور العلم والقداسة الساجدة والحب العالم وفى صنع بل التحام ثقافات كونية وتوادود حضارات والتحام روحيات وتصالح لغات. اللقاء كان بين اثناسيوس وانطونيوس العظيمان كما تلقبهم الكنيسة ’ والكنيسة الرومية تطلق على انطونيوس لقب (بروفسور الصحراء ) والمصرية تلقب انطونيوس (أب جميع الرهبان) . لقد ذهب اللاهوتى اليونانى الثقافة الى البرية المصرية ليعمد علومه فى دموع وأنين أباء البرية ! البطريرك العظيم واللاهوتى الذائع الصيت يتلمس العلم والتلمذة والبركة عند راهب وناسك قبطى مصرى .الراهب أنصت قلبيا للكلمة وأطاعها والبطريرك شرح صيرورة الكلمة جسدا وسجد لها(يوجد 200 شاهد كتابى فى حياة انطونيوس )
. لقد صنع (عوض ) ابن القرية المصرية الأصيلة و(خالد )ابن الاسكندرية عاصمة الثقافة الكونية واللاهوت صلحا بين البرية والعرش البابوى وصار كل منهما سندا للأخر وذخرا ! وليتخيل القارئ لو أن البطريرك تعجل الأمر وقام بسيامة انطونيوس اسقفا لما سمع العالم عن الرهبنة شيئا جديرا بالذكر !!عاش كلاهما شهادة الضمير بعد أن عزت عليهما شهادة الدم . لقد ذاق الرجلان مرارة الامحاء الكامل ’ فصارت الرعاية والخدمة لهم حلاوة وعذوبة ورسالة وشهادة . الشهادة التىى تدفع كل راهب الى النسك والتجرد والتوحد والسجود والدموع والسهر وكل اسقف الى الحب والعلم والسهر والرعاية والقرأة ليس فقط للكتب بل لكل علامات الزمان الماضى والحاضر والأتى .لقد ابدع اثناسيوس مرتان أيما ابداع ’ فى كتابين يعدا من درر مكتبة الثقافة اللاهوتية والروحية والانسانية فى العالم قاطبة .المرة الاولى فى شرحه لتجسد الكلمة لاهوتيا والتى أحسن نقلها الى لغة الضاد الصديق الدكتورجوزيف فلتس(تجسد الكلمة ’ مركز درسات الأباء ’نصوص ابائية 62 ) والمرة الثانية فى تجسد الكلمة عمليا فى حياة القديس انطونيوس ويرى بعض العلماء بأنه يوجد نسخة قبطية لحياة انطونيوس موجهة الى رهبان باخوميوس الذين لا يقرأون اليونانية ! كما يرى الباحثون المتخصصون بأنه يوجد وجهات شبه كبيرة بين الكتاب ضد الوثنيين وتجسد الكلمة وحياة انطونيوس مما يثبت أن الكاتب واحد ولقد سبق كتاب تجسد الكلمة كتاب حياة انطونيوس اذا تمت )كتابة التجسد فى مدينة تريف بين عامى 335 و337 وحياة انطونيوس بعدها بعشرين عاما))Sources Chreriennes N.400 , 1994).. وكأن البطريرك اللاهوتى قد وجد ضالته ليشرح ايضا وايضا تجسد البمسيح فى حياة الراهب والتى ما هى سوى اقتداء بالسيد .ولد الناسك عام 251 واستراح فى الرب الذى أحب عام 356 م ’ بينما رأى اثناسيوس وجه البسيطة فى 296 واستراح من اتعابه عام 373 م .(السنكسار-المنشورات البولسية -بيروت -1988’ جزء 1 ’ ص 501 -534 ). لقد تكاملت دعوتهما لتبعية السيد ’ فالراهب كان دائم التأمل بالالهيات ’ كثير التأمل فى زوال الدنيا ودوام الأبدية مع أنه أبن عز !’ بينما الاسقف مال منذ نعومة اظفاره الى عذوبة المحبة الألهية واجتذاب النفوس الى المسيح والى احضان كنيسته المقدسة ’ ولهذا كان يجمع الصبية الوثنيين ويعلمهم الديانة المسيحية ويعمدهم بيده ! الى أن لمحه البطريرك الكسندروس وتبنى مواهبه اللاهوتية والليتورجية بحس روحى كبير وذكاء . الشئ اللافت هو أن الشعب المصرى الفهيم هو الذى صنع وسند هؤلاء العظماء فى العلماء والنساك وكان يمتلك الحس الروحى واللاهوتى ليميز بين الغث والثمين فكم مرة قاوم الشعب الضلال وكاد يفتك بالهراطقة وكم مرة استقبلت مصر كلها اثناسيوس بكل مظاهر الفرح والحبور وخاصة بعد موت اريوس وصدور الامر الملكى بعودة اثناسيوس الى رعيته عام 338 م.
ولقد خرج انطونيوس على رأس الشعب المحتجين على ابعاد اثناسيوس وكتب هو الى الملك ولا ننسى نزوله الى المدينة العظمى للوقوف امام القضاة دفاعا عن المظلومين وتسبب ذلك فى صدور امر حكومى بمنع الرهبان من النزول الى الاسكندرية كما تروى لنا السنكسارات. وهذا يطرح قضية مدى المام انطونيوس بالمعرفة والقرأة والكتابة ’ ولقد ذهبنا فى الورقة البحثية التى قدمناها فى مؤتمر الباترولوجى باكسفورد العام المنصرم بأنه لا يمكن أن يكون انطونيوس اميا بل متعلما وكان يتكلم المصرية أى القبطية والتشابه الكبير بين القبطية واليونانيى سمح له بفهم اليونانية ولعل جهل انطونيوس المزعوم لا يخص القرأة والكتابة بل الثقافة الوثنية يومها !وهناك رسائل منسوبة له وكيف يقدر أمى على حوار مع الفلاسفة الوثنيين كما فعل انطونيوس (فصل 74 -79 ).ويقول اثناسيوس بأن الذاكرة القوية (منيميس )كانت هى كتاب المصريين المفتوح ..ر بما التقوى الشعبوية ارادت بالمبالغة فى اظهرا جهله ’ اظهار علمه الروحانى !الرسالة العلاقة بين الراهب والاسقف هى أن الرهبان هم رصيد الكنيسة والاساقفة هم المعلمون الذين يصرفون من هذا الرصيد لاشباع الجياع والعطاش الى القداسة والحب والعلم . الراهب انطونيوس واخوته وتلاميذه يواجهون الشياطين وجها لوجه غى الصحراء والبطريرك ومعاونيه يواجهون الهراطقة ’ أحفاد الشياطين وشياطين الفكر الفاسد ’ فى العالم . لم يكن لهما عروش ولا حاشية ولهذا أسكنهم الله على عرش النعمة وفى قلوب الناس .متى نرى الزمان الذى يتلهوت فيه الاساقفة والبطاركة ويتنسك فيه الرهبان بلا اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا تزييف .