بقلم: محمود كرم
وما معنى أن يبقى أبداً يعيش حالماً سادراً في أمانيه وأمنياته وتمنياته ، منتشياً بتدافعاتها بين أعطافه ، ومتحمساً بتدفقاتها في أعماقه؟ ربما أمنيات الإنسان وتمنياته وأمانيه هي تمثلاته الذاتية في نزعته الطبيعية نحو تعلقه الدائم بالحلم والأمل والرغبة والاشتهاء والتطلع والتخطي والانجاز والموهبة والتحدي ، ولذلك تمنيات الإنسان عادةً ما تفصحُ عن نزعته الدائمة نحو الإيمان بشيء ما ، ذلك الإيمان الذي يتلبس غموضاً في فكرته وماهيته وحدوده وحتى في أسبابه ربما ، ولكنه في النهاية يسعى إلى أن يؤسسَ لطريقةٍ ما ، قد تبدو من الناحية النظرية تختال في المستحيل ، ولكنها الطريقة التي تبقى مرافقةً للإنسان في أعماقهِ ، تبعثه من جديد ممتلئاً بالضوء والتوهج ، وتدفعه للبقاء على قيد الحياة إنساناً يتمنّى ويشتهي ويرغب ويجترح الآمال والأحلام والمشروعات الكبيرة ..
الإنسان في أمنياتهِ وتمنياته الكبيرة وحتى في الصغيرة منها ، ربما يجد ذاته وقد انصهرت في طاقةٍ ملهمة يبقى مسكوناً ومدفوعاً بها طيلة الوقت ، قد تتجلى في بعض الأحيان في طريقةٍ ما يعايشها بكل اندفاعاته وحماساته واعتقاداته ويقينياته أيضاً ، إنها الطريقة التي يتلمس من خلالها امكانياته الذاتية في قدرته على التمنّي والحلم والاشتهاء ، فالإنسان عموماً يجد نفسه في طاقةٍ ما ، ويريد أن يراها ملهمة ودافعة له ، بل وفاضحة في بعض الأحيان لميوله ونوازعه الذاتية ، وعاكسة بالضرورة لقدرتهِ على الإيمان بشيء ما ، والإيمان بأمل ما ، حتى وإن كان هذا الأمل بعيداً أو مستحيلاً ، فالضرورة لديه تستدعي أن يكون قادراً على الأمل والحلم والرغبة والتمنّي ..
وربما تمنيات الإنسان تعني في جانب آخر ، أن ذاته تنطوي على رغبات مكبوتة ، رغبات لم يستطع تحقيقها أو الجهر بها ، فتبقى تمنياته هي طريقته في الإفصاح داخلياً عن رغباته المكبوتة ، ومن غيرها قد يجد نفسه محشوراً في مأزق نفسي وشعوري بالغ الألم والوجع والقهر ، وقد لا يتغير حاله إلى الأفضل حينما يتمنّى ، ولكن ربما التصاقه بتمنياته وأمنياته تجعل مأزقه النفسي قابلاً للهضم والامتصاص والاستيعاب ، يتعايش معه ويحاوره ويقبل إدارته بقدرته على الإيمان بالتمنّي والحلم ، ولذلك ربما كل أولئك الذين استطاعوا أن يغيّروا من واقعهم المؤلم تحت الظروف القاسية والقامعة والقاهرة ، كانوا قادرين على التمنّي والحلم ، انتصاراً لرغباتهم المكبوتة والمقموعة ، فالمسكونون دائماً بالحلم والتمنّي والأمل والتطلع ، قد يكونون قادرينَ في يوم ما على ترجمة ما كانوا يتمنونه ويحلمون به ، أليستَ الأشياء دائماً تبدأ بالحلم والتمنّي ، أو ربما قد تنتهي بالحلم والتمنّي .؟ وأليسَ الإنسان هو ذلك الكائن الحالم والراغب والمتمنّي .؟ وربما كان فرناندو بيسوا الشاعر البرتغالي محقاً حينما قال : ( لم أسع أبداً إلى أن أكون سوى حالم ) ، إنها ربما طريقة الإنسان الدائمة في اجتراح البداية ، وهل البداية مهمة في حد ذاتها .؟ ربما قد تكون في غاية الأهمية ، حينما تستطيع البدايات أن تهبَ الإنسان طاقة الفعل التغييري والإبداعي.
وإذا ما حاولنا أن نعرف ، لماذا الإنسان في حالاته النفسية والشعورية التصاعدية ، شديد الإيمان بالتمنيات والأمنيات والأحلام .؟ ربما يفعل ذلك لأنه عادةً ما يستعذِب التعلق بالأشياء غير الموجودة ، أو غير المتاحة بين يديه ، إنه يتمنّى كثيراً ما يفتقده كثيراً ، وما ليس في حوزته ، وربما يكون كثير التمنّي والحلم حينما يكون كثير الفقد وكثير الحاجة ، وربما كان الإنسان كثير التمنّي ، لأنه كثير اليأس ، أو لأنه كثير اليأس ، فكان عليه ربما أن يكون كثير التمنّي ..
وربما يحب الإنسان كثيراً أن يبقى هائماً في أمنياته وتمنياته وأحلامه ، يرافقها وترافقه دائماً ، يبادلها شغف التواصل ، ولا يقبل التخلي عنها أبداً ، ربما لأن أمنياته وأمانيه استطاعت في وقتٍ ما أن تمنحَ لحياته مذاقاً آخر ، أو وجهاً آخر ، أو جعلته يكتشف أن للحياة معنى آخر أو أبواباً أخرى ، أو لأنها قد وهبتهُ قدرةً على اجتراح أكثر من طريقة للتعامل مع الحياة حتى ولو على المستوى التخيّلي ..
وقد لا يحقق الإنسان من خلال أمنياته أشياء ملموسة أو واقعية ، ولكنها تجعله في مواجهة الإحباطات والعثرات أكثر حيوية وتفاؤلاً واقداماً ، وقد تكون الأمنيات حتى الصغيرة منها جداً هي بمثابة عملية ترميم داخلي للإحباطات والتراجعات ، وربما هوَ بذلك يريد أن يقول أن مَن لا يستطيع التمنّي قد لا يقدر على الاختيار ، اختيار الأسلوب أو الطريقة أو حتى البداية ربما ، أو إن مَن لا يستطيع التمنّي قد لا يملك رفاهية التواصل مع اندفاعاته واشتهاءاته وأحلامه ، أو قد يخسر الحياة ويفقد معناها وأبجدياتها ..
ولذلك ربما أولئك الذين يتواصلون بدفءٍ وحميمية ورومانسية أيضاً مع أمنياتهم وتمنياتهم وأحلامهم ، يشعرون في لحظات التمنّي تلك إنهم قد حققوا انتصاراً ولو آنياً على العثرات والتلكؤات والمرارات والإحباطات ، ويرون أن الحياة ليست هيَ ما يعايشونها كما هي بظروفها وأحكامها وقوانينها وفروضاتها ، بل إنهم ربما أصبحوا يرون أن الحياة هي ما يتمنونها ويحلمونها ويرغبونها ، كما لو أنهم يعرفون مسبقاً ، بل ومتأكدون منه بأن هناكَ في نهاية الطريق شيئاً جميلاً ينتظرهم ، وما الحياة في نظرهم سوى إنها تعني الانتظار الملهم لشيء جميل قادم ..
وعندما يجد الإنسان أن كل ما حوله على النقيض القاسي والموجع مما يريد ويرغبُ ويتمنّى ، يشعر حينها بالألم يحاصره من كل جانب ، ولذلك ربما في هذه الحالة يزداد تعلقاً وتمسكاً وإيماناً أيضاً بأمنياته وأحلامه التي يجدها عبوراً نحو ما يعتبره الأنسبَ أو الأفضل أو الأجمل له ولمن حوله ومعه ، ولكن أليسَ التمنّي هو أسلوب العاجز أو الحالم أو المتحايل على الواقع أو القافز عليه ، ربما ، وربما قد يكون أيضاً أسلوب الواثق والمكافح والراغب بشدة ، ألم يكن مارتن لوثر كنـغ ـ داعية الحقوق المدنية في أمريكا ـ متمنياً وحالماً في الأساس ، حينما صدحَ تشبثاً وتعلقاً بمقولته الشهيرة ( لديَّ حلم ) ، لينتصرَ بحلمه البهي هذا على العنصرية البغيضة ، وألم يكن نيلسون مانديلا حالماً ومتمنياً هو الآخر ، حينما كان في سجنه يعاني الإجهاد والوحدة والألم ، وكل ما حوله كان على النقيض والبعد من أمنيته .؟ ولكنه بقيَ متمسكاً بحلمه وأمنياته للخروج من شرنقة التمييز العنصري التي كانت تفتك في شعبه وبلاده ، ليرى أن الأمور في النهاية قد أذعنت لحلمه وأمنيته تلك ، وأستطيع أن أقول استنتاجاً من ذلك ، أن الأحرار والساعينَ إلى حياةٍ حرةٍ ونظيفة نجدهم إنسانيين في أمنياتهم وأمانيهم وأحلامهم ، لأنهم إنسانيون في مأساتهم وفي أحزانهم وحتى في دموعهم أيضاً ..
محمود كرم
كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com