بقلم: شمعي أسعد
أقطع الطريق إلى قرية "شربات" في منطقة "النهضة" بحي "العامرية" بـ"الإسكندرية" وفي ذهني بعض الأفكار المتلاحقة. كنت أتساءل طوال الطريق كيف فعلوها؟ ألم يكونوا جيرانًا لسنوات طويلة؟ كيف تحولوا في ليلة واحدة؟ كيف نسوا أو تناسوا كل ما كان يجمعهم كجيران وأهل قرية صغيرة؟ كم أتوق لتأمل ملامحهم باحثًا عن الإنسان الذى فيهم، أين أخفوه في تلك الليلة؟؟ وقد حرصت بمجرد دخولي للقرية أن أتفحص وجوههم طامعًا أن أجد بها اختلافًا يجعل تفسير ما حدث أمرًا سهلاً، ولكنني وجدتها وجوه هي نفس وجوهنا، ووجدت أناسًا يشبهوننا، وجدت نفس البيوت ونفس الشوارع ونفس لون تربة الأرض، لم أجد أرضًا غريبة ولا سماءًا غريبة، باختصار وجدتنا كلنا هناك.
كان السؤال الأصعب كيف لأناس مثلنا أن يقوموا فجأة بحرق منازل بعضهم بعضًا، مهددين أرواح من فيها غير عابئين بوجود أطفال ونساء بها؟ هل هي التحولات المفاجئة في الشخصية؟ وأين يكمن جين التحول ومتى ينشط؟ أم سنلجأ إلى التفسير الأكثر راحة أن هناك أطرافًا خفية ربما أتوا من مجتمع آخر غير مجتمعنا لأننا نفضل أن نحتفظ لمجتعما ولأنفسنا بصورة رائعة لا ترتكب هكذا جرائم.
نقابل "سمير رشاد" الذي ناله العقاب الجماعي لمجرد أنه جار "مراد"- المتهم- في مكان قريب من منزله، ليأخذنا إلى هناك حيث يعيش مع والدته وأخيه "جرجس" بينما تعيش زوجة "سمير" وأبناؤه في إحدى محافظات الصعيد خوفًا على حياتهم، فقد طال التهديد نسائهم وبناتهم من بعض صغار النفوس هناك، أما زوجة "جرجس" فتعيش في مكان خارج النهضة.
تقابلنا والدة كل من "سمير" و"جرجس" بوجه حزين يحمل بوضوح علامات الانكسار، وكنت كلما نظرت إليها وجدت عينيها تحملان كثيرًا من الأسئلة الصامتة التي لم نكن نملك لها إجابة فنتحاشى النظر إليها، كنت أتعمد تأجيل الكلام معها حتى يتكون لدي قدر من الطاقة اللازمة لتحمل مرارة شكواها، أما عن منزلهم فقد تم نهب وسرقة كل ما كان متاحًا، بدءًا من محلين لبيع الأقمشة كانا مصدر رزقهما، حتى ملابس الأطفال والنساء.
أسأل "جرجس" الذي تعيش أسرته عند أقاربهم في مكان بعيد عن القرية عن مدارس أبنائه، فيخبرني أنه أرسل "مينا" ابنه إلى المدرسة في أول يوم للدراسة ليعود له مضروبًا في الشارع من صبيان المنطقة وبيده جرح وقميصه ممزقًا، فيضطر أن يحرمه من مدرسته حتى تهدأ القرية وتعود الأمور إلى طبيعتها، وبالمثل تعطلت كل أمور حياتهم لأجل غير مسمَّى.. ويحكي لنا أنه أثناء الهجوم عليهم ساعدهم بعض الجيران المسلمين على الهروب، وحدث أن اختفت طفلته الصغيرة ثم بحثوا عنها ليجدوها جالسة في أحد أركان المنزل لا تستطيع الحركة من فرط ما كانت تشعر به من رعب وفزع.
ثم تأخذنا والدة "سمير" و"جرجس" لترينا حال البيت بعد تلك الجريمة، وقالت إنهم لم يتركوا لهم حتى بطانية لتحميهم من برد الشتاء، ثم حكت أنهم تعرَّضوا لهجوم آخر يوم الاثنين التالي لجمعة الهجوم فاختبأوا في عشش الفراخ، وكان المهاجمون يهتفون "يطلعوا من هنا وناخدو عرضنا"، في تهديد واضح لبناتهم بالاعتداء عليهم، مما اضطرهم لترحيل بناتهم إلى الصعيد لحمايتهم من بطش هؤلاء، ثم ختمت كلامها وهي تردد: "عايزين يبهدلوا بناتنا ويبهدلونا منهم لله.. اشتكيتهم لربنا".
أما حكاية "مريم" فهي الحكاية الأكثر ألمًا؛ فقد كانت "مريم" هي العروس التي كانوا يخططون لفرحها في شهر أبريل، وككل بنت تستعد للزفاف كانت "مريم" تستعد بشراء كل لوازمها أو ما يعرف باسم "الشوار"، وكان كل شوارها في منزلهم حينما هوجم، وبالطبع سُرق كل ما كانت قد اشترته من ملابس وأطقم مطبخ وأجهزة ومفارش وملايات. "مريم" لا تتخيل أن فرحها قد انقلب حزنًا، وأن المعتدين لم يسرقوا فقط شوارها بل سرقوا فرحتها بالحدث الذي لا يحدث سوى مرة واحدة في العمر، والآن "مريم" لا تفعل أي شىء سوى البكاء المستمر.
هذه لقطات خاطفة من حياة عائلة واحدة من العائلات التي أضيرت في حادث "العامرية" بسبب إشاعة لم يثبت بعد صحتها، جاءهم فاسق بها فصدَّقوه بدون أن يتبينوا، فأصابوا قومًا بجهالة.
أما باقي العائلات، فعائلة "أبو سليمان" أو "المقدس أبسخيرون" فيقيم هو واثنان من أبنائه مع الحاج "محمد جلال"، بينما باقي أبنائه وزوجاتهم وأولادهم فيقيمون لدى أقربائهم خارج "النهضة"، بينما عائلة "أندراوس" فيعيش "دهشور" و"السبع" فقط في القرية بدون زوجاتهما وأولادهما خوفًا عليهم، أما أسرة "مراد" المتَّهم فيعيشون جميعًا خارج "النهضة"، وقد تم الإفراج عن "مراد" بكفالة وكان نص الاتهام الموجَّه حسب كلام "ممدوح عزمي" محامي المتهم هو نشر أكاذيب من شأنها الإضرار بالأمن والسلم وتكدير السلم العام وإحداث فتنة طائفية، أي أنه وفق المحكمة لا توجد علاقة بين "مراد" وأي فتاة مسلمة.
حقًا لم تعد الفتنة نائمة بل هي مستيقظة بارك الله من يخمدها.
نعود من حيث أتينا، سالكين الطريق الذي يربط القرية بالطريق الصحراوي، وهو نفس الطريق الذي به مصانع شركة أسود الكربون التي لا يعلمون أنها تحمل لأهالي القرى من المخاطر ما هو أكثر ضررًا من وجود مسيحيين بها، بل هي شركة هندية أسسها الهنود الذين هم ليسوا مسلمين ولا مسيحيين، ومن ثم تنشأ مفارقة جديرة بالتأمل؛ ففي داخل القرية يُحارب رأس المال المسيحي بينما يقبع خارج القرية رأس المال الهندي مخلفًا أضرارًا بيئية مدمرة.
تلك هي بلادنا التي لم تعد تحب النهار، فراحت تشعل الحرائق هنا وهناك.