منى أبوسنة
الحضارة، فى أصلها اللغوى، لفظ يستخدم للإشارة، بصفة عامة، إلى انتظام الحياة الاجتماعية فى «نسق» عام موحد، ويشترك لفظ «الحضارة» مع لفظ «الثقافة» الذى ارتبط به ارتباطاً وثيقاً، فى أن كلا منهما كان يستخدم فى الأصل للإشارة إلى معنى واحد هو «المسار».
اللفظان إذن مرتبطان بلفظين آخرين هما: المسار والنسق بمعنى الحياة الاجتماعية المنظمة. وحيث إن لفظ «المسار» هو الأصل، فإن جذور اللفظين، الحضارة والثقافة مردودة إلى هذا المعنى، أى إلى المسار.
والسؤال إذن...ما هى طبيعة هذا المسار الذى اشتق منه لفظا «الحضارة» و«الثقافة»؟
فى تقديرى أن الإجابة عن هذا السؤال تستلزم إدخال لفظ آخر هو «التاريخ» أو بالأدق، التاريخ الإنسانى، حيث إن هذا اللفظ لازم لتحديد معنى المسار وطبيعته.
إن نشأة التاريخ الإنسانى مردودة إلى نشأة الحضارة الإنسانية، أى إلى عصر الزراعة الذى بزغ فيه وعى الإنسان بقدرته على التحكم فى العالم الخارجى وتغييره من أجل تلبية احتياجاته، فبعد أن كان الإنسان محكوماً بالطبيعة، أى بعد أن كان مجرد موضوع لها، استطاع الإنسان، من خلال وعيه بذاته وبالعالم الخارجى أن يتحرر من عبوديته للطبيعة، وأن يصبح ذاتاً للتاريخ، ومن هنا يمكن القول بأن هذا الوعى هو المحدد لنشأة الإنسان ولتأسيس الحضارة، ويعتبر هذا التحديد نقلة كيفية فى التاريخ الإنسانى، حيث انتقل الإنسان من عصر الصيد إلى عصر الزراعة، وتأسيساً على ذلك، وطبقاً لمعنى الحضارة سالف الذكر، يمكن القول بأن المسار التاريخى للحضارة الإنسانية الواحدة قد بدأ بالنسق الزراعى، أى أن انتظام البشر فى منظومة اجتماعية تتحدد حضارياً بقدرة الإنسان وبوعيه بالتحكم فى العالم وتغييره من أجل تلبية احتياجاته الجديدة.
فالحضارة إذن واحدة فى نشأتها، تتسم بالصيرورة والتغير، وما يتسم بالصيرورة والتغيرهو نسبى بالضرورة وليس مطلقاً ثابتاً، وهذه النسبية هى سمة لما ينتجه الإنسان من منجزات علقية ومادية، وقد اتسم مسار الحضارة، التى أبدعها الإنسان، بالتحول من حكم الأسطورة إلى حكم العقل، وهذا المسار هو المعادل لتطور وعى الإنسان بالكون عامة وبالبيئة المحيطة به خاصة، من وعى بدائى غير قادر على التحكم فى العالم تحكماً كاملاً، وذلك بسبب تشابك الأسطورة مع العقل، إلى وعى بقوانين الطبيعة من خلال اكتشاف العلم النظرى ثم العلم التجريبى من أجل المزيد من التحكم فى العالم وتغييره ودفع مسار الحضارة نحو المستقبل.
والسؤال إذن: إذا كانت الحضارة فى نشأتها واحدة، فمتى حدثت القسمة؟، وكيف تفرعت وتعددت الحضارة الواحدة؟ الجواب، فى تقديرى، مردود إلى «الثقافة» أو بالأدق، إلى «الثقافات»، فالثقافة، فى تعريفها الجامع الذى أورده المؤرخ والأنثروبولوجى الإنجليزى إدوارد تايلور فى كتابه «الثقافة البدائية» (1870)، هى «ذلك الكل المركب الذى يتضمن المعرفة والاعتقاد والفن والأخلاق والقانون والعرف وأى قدرات وعادات اكتسبها الإنسان من حيث هو عضو فى المجتمع».
فالحضارة، فى مسارها، تجسدت فى عدة أنساق اجتماعية، كل منها محكوم بأسلوب حياة وأسلوب فكر ورؤية كونية ونسق قيم، وكلها تعبرعن حياة هؤلاء البشر وتنظم حياتهم، وقد عرفت هذه الأنساق بالثقافات، وهى بطبيعتها متعددة ومتنوعة ومتمايزة، وقد تبلورت هذه الثقافات فى نسقين متناقضين يصور كل منهما مساراً معيناً للحضارة الإنسانية الواحدة.
وهذان النسقان هما: النسق الزراعى القائم على الأسطورة، والنسق الصناعى القائم على العقل ومنتجاته، ابتداء من الثورة الصناعية فى القرن التاسع عشر حتى الثورة العلمية والتكنولوجية فى القرنين العشرين والواحد والعشرين.
وقد ارتبط النسق الصناعى بمرحلتين تاريخيتين هامتين هما: الإصلاح الدينى فى أوروبا فى القرن السادس عشر، وعصر التنوير فى القرن الثامن عشر، وهاتان المرحلتان قد انتهيتا إلى مشروعية تأويل النص الدينى الذى أفرز بدوره العلمانية، كما أفرز العلم التجريبى الذى أدى إلى الحداثة، بينما اتسم النسق الزراعى، الذى تمثل فى معظم ثقافات العالم «هذا بالإضافة إلى المجتمعات الرعوية»، برفض إعمال العقل فى النص الدينى وتأويله «على الرغم من بعض الاستثناءات الهامشية»، وكذلك رفض مبدأ البحث العقلى الحر اللازم لإنتاج الفكر العلمى.
وقد نشأت العلمانية فى الثقافات التى سمحت بالإصلاح الدينى الذى أفضى إلى تطوير وتحديث الفكر الدينى، مما أدى إلى التنوير، والتنوير فى جوهره، فى عبارة الفيلسوف الألمانى كانط، هو «كن جريئاً فى إعمال عقلك» وهى تعنى الاعتماد الكامل على العقل فى تسيير أمور الحياة وجعل العقل هو المعيار الأعلى فى تطوير المجتمع وثقافته.
وقد استطاعت الثقافات العلمانية التى أخذت بالتنوير دفع مسار الحضارة فى اتجاه ما بعد عصر الصناعة، أى فى اتجاه الثورة السيبرنطيقية والتى جسدت قمة الإبداع الإنسانى بمعنى التحكم والتغيير.
ومضمون هذه الثورة أن الحياة تقوم على مبدأين هما: مبدأ التحكم feed back «ويترجم خطأ بالتغذية المرتدة» ويتمثل فى قوى الضبط والربط فى الطبيعة، ومبدأ النتوء entropy ويتمثل فى قوى التفسخ والتدمير، ويدور علم السيبرنطيقا على تقوية عناصر التحكم من أجل إضافة عناصر النتوء فى شتى مجالات الحياة.
ومع بزوغ ظاهرة الكوكبية فى نهاية القرن العشرين تبلورت القسمة الثنائية الحضارية بين النسقين الثقافيين المتمايزين وهما النسق الزراعى والنسق الصناعى، واتخذت هذه القسمة الحادة شكل الصراع بين العلمانية والأصوليات الدينية.
وقد كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 هى التجسيد المادى للصراع الفكرى بين الثقافتين، وتدمير برجى مركز التجارة العالمى بنيويورك له دلالة رمزية حضارية، بالإضافة إلى أنه يقدم الدليل الرمزى على صراع الثقافتين.
والدلالة الرمزية تكمن فى أن مركز التجارة العالمى هو التجسيد المادى لظاهرة الكوكبية التى أفرزها المسار الحضارى فى قمة تطوره، والتى أفرزت «مجتمع المعرفة» القائم على إبداع معارف جديدة باستخدام وسائل تكنولوجيا المعلومات.
والسؤال المحورى هو: ما هى الدلالة الرمزية لتدمير مركز التجارة العالمى؟ فى تقديرى، إنها ضربة موجهة إلى الحضارة الإنسانية بهدف تحويل مسارها إلى الماضى بدلاً من المستقبل، ذلك أن الصراع الحاد بين الثقافة الصناعية العلمانية والتى تجاوزت حكم الأسطورة إلى حكم العقل، والثقافة الزراعية والرعوية التى مازالت محكومة بالفكر الأسطورى اللاعقلانى، قد وصل إلى مرحلة الصدام من أجل انتزاع مسار الحضارة وإعادته إلى المسار الذى تحكمه الأسطورة وليس العقل، وذلك بتوجيه المسار الحضارى نحو الماضى بدلاً من المستقبل.
والسؤال الأخير هو.. أى من التيارين سينجح فى تملك الحضارة؟.