كمال زاخر
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
9 ـ تمخض الفكر فولد إرهاباً !!
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
لم يكن ما كتبه الشيخ محمد الغزالى جديداً فقد سبقه العديد من الكتاب وربما أكثر مما تطرق إليه، ولعلنا نعود إلى كتب القمص مرقس سرجيوس، فى سلسلة كتبه التى اصدرها تباعاً رداً على كتّاب تناولوا المسيحية بالنقد والنقض، بأكثر مما قاله شيخنا الجليل، وظنى أن قدر من ما أورده الشيخ الغزالى فى كتابه "قذائف الحق" إعادة تدوير لتلك الكتابات، وهو ما تكشف عنه عناوين كتب القمص سرجيوس،
• الرد على الشيخين الطنيخى والعدوى حول تجسد الله ولاهوت المسيح. (1934).
• الرد على القائلين بتحريف التوراة والانجيل.
• الرد على المنتصر المهدى حول حقيقة صلب المسيح وموته. (1947).
• الرد على الشيخ العدوى حول التثليث والتوحيد.(1946).
• الرد على الشيخ الطنيخى وأخرون حول سر القربان.
• هل تنبأت التورارة والانجيل عن محمد؟.
• هل تنبأت التورارة عن المسيح؟.
• الدكتور نظمى لوقا فى الميزان ( ردا على كتابه محمد الرسالة والرسول).(1959).
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
وقد أوردت عناوين اصدارات القمص سرجيوس (1882 ـ 1964)، لنكتشف معاً عدة أمور :
ـ أن المناخ العام والثقافى ـ من الثلاثينيات وحتى الخمسينيات من القرن العشرين ـ كان يسمح، ويحتمل، قيام حوارات متبادلة حول أدق العقائد الدينية بل قل معارك ساخنة دون ملاحقة، أو تصنيف فى خانة (إزدراء الأديان). ودون أن يلهب أعصاب التابعين فيتحسسون سيوفهم.
ـ أن ما نقرأه فى العقود التالية، فى ذات السياق، ما هو إلا إعادة تدوير لما كتبه طرفى المنازعة الفكرية آنذاك، وتأتى، فى الكتب المحدثة، مفتقرة لقواعد الحوار الموضوعى، وتستند ـ كما فى حالة كتابات الشيخ محمد الغزالى ـ على ذهنية الإستقواء والمغالبة، التى تكتب وقد تملكتها ذهنية إذعان الأخر.
ـ تلك الكتب المؤسِسة لم تخرج عن دوائر الفقه واللاهوت، فيما راحت الكتب الناقلة تخلطها بالسياسة، وتذهب بها إلى تخوم مؤامرة كونية مُتخيَلة تستهدف وجود الدين نفسه. الأمر الذى يستوجب اطلاق نفير الحشد والمواجهة.
تخيلت نفسى شاباً غضاً مسلماً، يعيش مرحلة البحث عن اجابات لأسئلته الوجودية، فإذا به محاصراً عبر آليات تشكيل ذهنيته بطوفان من الكتب والدوريات والبرامج الحوارية، بما يؤكد أن خطراً يتهدد ما وقر فى ذهنه من ثوابت، خطر يجتمع عليه كل أعداء معتقده؛ اليهود والنصارى يدعمهم، بحسب طرح المحدثين، تكتل صهيوامريكى، هذا الشباب لا يستطيع أن يحقق ذاته بفعل
ارتباكات السياسات الإقتصادية والإختلالات السياسية وتقلباتها، واتساع الهوة بين الطبقات، فإما فقر مدقع أو ثراء فاحش، فيما تآكلت الطبقة الوسطى أو كادت، ولم تعد قادرة على خلق مساحة وسط تضبط ايقاع الحراك المجتمعى، كما كانت قبلاً، فيجد نفسه طوع يد ما يطرحه الدعاة الجدد، ويترجم صرخات الإستغاثة لإنقاذ الدين من مستهدفيه، وما يقرأ ويسمع إلى افعال عنفية إرهابية، ليضمن آخرته بعد أن فشل فى دنياه.
وتخيلتنى شاباً قبطياً غضاً من جيل قرينه المسلم، تتملكه الحيرة، ويزاد على اسئلته الوجودية، محاولة فهم ما يواجهه من عنت واقصاء، بسبب معتقده، وهو واقع أيضاً تحت ضغط عدم التحقق ويشترك مع صنوه المسلم فى دفع فاتورة انظمة تدير المشهد بعشوائية، لما يقرب من قرن من الزمان، فلا يجد أمامه إلا التقوقع والبحث عن غطاء يخاله فى الكنيسة التى تجتذب الكوادر المتميزة فى تخصصها وتضمها إلى الإكليروس أو إلى الرهبنة، أو يجد الغطاء فى الهجرة، التى تستنزف القوى الناعمة وتضخها بعيداً على ضفاف المتوسط المقابلة أو فى دول الغرب البعيدة.
وبين التطرف والإرهاب والإنكفاء والإقصاء والتقوقع والهجرة تتآكل شطآن الوطن.
دعونا نتوقف قليلاً عند اطروحات الشيخ محمد الغزالى، وقد عرضنا طيف منها، والتى تتميز بأنها جمعت إلى حد كبير أغلب ما يطرحه التيار الرديكالى، الذى يتملكه هاجس المؤامرة على الدين، ويحدد اطرافها وفى القلب منها "النصارى" الذين كمنوا حتى لاحت فى الأفق بوادر ضعف المسلمين، فتحالفوا مع القوى الدولية المتربصة يكيدون للإسلام، ويؤكد أن الكنيسة القبطية تتلقى دعماً لوجستياً ومعنوياً من ثلاثة اطراف؛ امريكا والفاتيكان والحبشة !!، رغم أنه يدرك أن الدين ليس على أجندة امريكا، التى دعمت وبقوة مجاهدى افغانستان، فى حربهم ضد الإتحاد السوفيتى، آنذاك، ويدرك البون الشاسع بين الفاتيكان حاضرة الكاثوليكية، والكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ويدرك حال الحبشة الأكثر احتياجاً للمساعدة، لكنها الحبكة الدرامية التى برع فيها خياله الخصب.
أما تفاصيل "اجتماع المؤامرة" الذى جاءنا بتفاصيله ونصوص ما دار فيه فترشحه لمنافسة أعتى الأجهزة الاستخباراتية!!، ثم يمد خيوط المؤامرة لتشمل ضلوع حكومة عبد الناصر فيها، ولا ينسى أن يؤكد انسحابه من تنظيم الإخوان وإن ظل فؤاده يهفو إليهم، ويظل السؤال عن توقيت انسلاخه من التنظيم قبيل ايام معدودات من الصدام بين التنظيم وعبد الناصر والذى اسفر عن اعتقال كوادره، فكان الكاتب ضمن الفرقة الناجية من بطش النظام.
قد نكون بحاجة إلى ربط ما جاء فى هذا الكتاب ـ النموذج ـ وبين ما ذكرناه آنفاً عن تفكيك منظومة القيم المصرية، مفردات لغة الحياة، وزى النساء والفتيات والرجال أيضاً، واستبدال الفلكلور الشعبى فى المناسبات الإجتماعية وهجران كل ما هو مصرى، وتجفيف نوافذ الإبداع، وموجات السنيما النظيفة واستقطاب الفنانات وتحويلهن إلى ايقونات عند الشارع، سلماً وعنفاً، وترويع الآمنين فى المحافظات ذات الكثافة المسيحية، والبعيدة عن الحكومة المركزية، وتسليمها بجملتها إلى بدائل متصحرة متجهمة، والتسلل إلى مفاصل الدولة وأجهزتها ودواوينها. بل وإلى المؤسسات الشعبية والخاصة.
لعلنا ندرك أن الإرهاب يبدأ فكراً، ومن ثم فمعركة الوطن المصرى ليست مع الإرهابيين فهم نتاج فكر تمكن من عقولهم وتحالف مع عدم تحققهم الإنسانى، لكن مع الفكر الذى شكل هذه العقول، ومن ثم يصير من المحتم مواجهة المفارخ التى تنتج هذا الفكر فيما يعرف بتجفيف المنابع.
وللحديث بقية