فاروق عطية
أبوه يوسف الجوهري كان يعمل بالحياكة في بلدة قليوب. تعلم ابراهيم في كُتّاب بلدته القراءة والكتابة الكنسية وقراءة الكتاب المقدس، كما أجاد مهنة نسخ الكتب وعلم الحساب علي يد أقاربه منذ نعومة أظفاره. كان قلبه متضعا مليئا بالإيمان ومحبة الفادي. كان يعشق عمل الخير وينفق جُل ما يتحصل عليه من دخل في نسخ الكتب الدينية وإهدائها للكنائس. أهدي البابا يؤنس الثامن عشر (البابا 107) الكثير من الكتب الدينية التي نسخها، سُر البابا لتقواه وغيرته وقربه إليه وقال له: "ليرفع الرب اسمك، ويبارك عملك، وليقم ذكراك إلى الأبد".
بدأ عمله ككاتب لدى أحد أمراء المماليك، توسط له البابا لدى المعلم رزق رئيس كتاب على بك الكبير، فاتخذه كاتبا خاصا له، واستمر في هذه الوظيفة. وعندما تولى "محمد بك أبو الدهب" مشيخة البلد (بعد اغتياله استاذه علي بك) عزل المعلم رزق من رئاسة الديوان ويقال أنه قتله، وأما المعلم إبراهيم فأبقاه في وظيفته. ولما مات أبو الدهب استقل بالإمارة ثلاثة أمراء ( اسماعيل بك ومراد بك وابراهيم بك)، ولكن دب الخلاف بينهم ففر اسماعيل بك للصعيد وخلا الجو للآخرين واقتسما الحكم بينهما، اختض مراد بك بإمارة الحج وابراهيم بك بمشيخة البلد فولّى المعلم ابراهيم الجوهري رئاسة كتاب جميع القطر المصري وهى رتبة تعادل رئاسة الوزارة الحالية. فبدأ نجمه يتألق، حتى بلغ أسمى رتبة كان يتطلع إليها قبطي آنذاك، فبالغ في إنكار ذاته وإظهار تواضعه، وقدم الخير للكل دون تمييز بين مسلم ومسيحي، فزادت ثقة إبراهيم بك به فعزز مركزه وأكرمه واختصه بثقته، فلما رأى إبراهيم الجوهري أن الفرصة سانحة أمامه ليقدم خدمة لأمته شرع يعمر الكنائس والأماكِن الخيرية، واشترى أملاكًا كثيرة وأوقفها عليها ومازالت وثائقها موجودة إلى اليوم.
رزق إبراهيم الجوهري بابن واحد اسماه يوسف وإبنة أسماها دميانة. كان يرجو أن يكون إبنه خير خلف له ولكن شاء الله غير ذلك، فاغتالته يد المنية وهو في ريعان الشباب. أعد له منزلا كاملا به كل الإمكانيات من أفخر المفروشات والمنقولات ليزوجه فيه إلا أن الرب اختاره إلى جواره وهو شاب في مقتبل العمر، وكانت وفاته ليلة زفافه.
حين كان المعلم ابراهيم في وسط محبيه الذين دعاهم لليلة الزفاف أن همس أحد الخدم في أذنه بوفاة ابنه، فكانت صدمة له ولزوجته التي كادت تجن، أما هو فكان أكثر تحملًا، وكانت الكنيسة تصلى من أجل تعزيته.
صارت نفس الوالدين مرّة للغاية حتى أنه أغلق الدار التي كان قد جهزها للفقيد بما احتوته من منقولات جديدة كان قد أعدها لبيت الزوجية، وكسر السلم الموصل إليه حتى لا يصعد إليه أحد ولا ينزل منه شيئ، لكن بعد حين تحولت المرارة إلى حب شديد لمساعدة الأرامل والأيتام وتعزية كل حزين أو منكوب.
اقتسم مراد بك وابراهيم بك الأحكام واستبدا بها، وصارا يقتسمان الأموال التي كانا يحصّلانها بالجور والعسف، ويعتذران للسلطان من عدم إمكانهما دفع المرتب السنوي بحجة أن الإيرادات لا تكفي النفقات الضرورية.
أطلع محمد باشا نائب الباب العالي في مصر السلطان بحقيقة الأمر وأكاذيبهما، أرسل السلطان العثماني لهما حسن باشا قبطان لقتالهما، انتصر قبطان باشا عليهما فلاذا بالفرار إلى صعيد مصر، وأضطر المعلم ابراهيم وبعض الأمراء وكُتّابهم إلى مرافقتهما. نهب قبطان باشا قصور البكوات والأمراء والمشايخ وصادر أملاكهم واضطهد المسيحيين، وقام بمصادَرة أملاك المعلم إبراهيم وأمر بإحصاء ما أوقفه على الكنائس والأديرة.
استحضر ابنته دميانة التي طلبت من الباشا مهلة جمعت فيها بعض الفقراء لتقول له: "إن أموال أبي في بطون هؤلاء وعلى أجسامهم"، ويبدو أن الباشا تأثر بذلك إلى حدّ ما فلم يبطش بها. أما زوجة المعلم إبراهيم فقد اختبأت في بيت حسن أغا، كتخدا علي بك الذي كان لزوجها عليه مآثر، لكن البعض دل الباشا عليها، فقُبض عليها وأُرغموها على إخبارهم عن مخابئ زوجها فدلتهم عليها فأخرجوا منها أموال من ذهب وآواني من ذهب وفضة وصيني فأخذوها، فباع ما باعه وأخذ ما أخذه.
دل البعض عن مكان منزل ابن المعلم إبراهيم الذي أغلقه أبوه حزنا عليه، فصعدو إليه وأخرجوا كل ما فيه من فرش وأمتعة وأواني ذهب وفضة وصيني وأتوا بها إلي حسن باشا، فباعها بين يديه بالمزاد وكانت شيئا كثيرا استغرق بيعها عدة أيام.
قام قبطان باشا قبل عودته للأسيتانة بتقليد إسماعيل بك خصم كل من مراد بك وابراهيم بك مشيخة البلاد. بعدها حل بمصر وباء شديد (الطاعون) مات به من سكان مصر الآلاف المؤلفة، وكان اسماعيل بك وجميع أهل بيته ضمن من مات به فأسماه الناس بوباء إسماعيل. عاد الحكم إلى يد إبراهيم بك ومراد بك ورجعا من الصعيد إلى القاهرة في السابع من أغسطس 1791م، ورجع معهم المعلم إبراهيم الجوهري، وكان هو الوحيد من الأقباط الذي نجا من اضطهاد حسن باشا، وتمكن بحسن سياسته أن يحفظ لنفسه مركزه في أعين المصريين جميعًا مسلمين ومسيخيين، وارتقى ثانية لدرجة عظيمة واستأنف جهاده في افتقاد الكنائس والفقراء والمساكين حتى أنه لم يكن يعتبر ماله ملكًا خاصًا به، بل كان يصرفه في كل عمل خيري، وللآن توجد كنائس كثيرة كان قد شَيَّدها هذا الرجل العظيم. كان المعلم إبراهيم محبوبًا من السلطات جدًا ومن الشعب حتى دعى "سلطان القبط" كما جاء في نقش قديم على حامل الأيقونات بأحد هياكل كنائس دير الأنبا بولا بالجبل الشرقي، وأيضا في كتابه بقطمارس katameooc محفوظ بنفس الدير.
قال عنه الجبرتي:[إنه أدرك بمصر من العظمة ونفاذ الكلمة وعظيم الصيت والشهرة، مع طول المدة ما لم يسبق من أبناء جنسه، وكان هو المشار إليه في الكليات والجزئيات، وكان من دهاقين العلم ودهاتهم لا يغرب عن ذهنه شيء من دقائق الأمور، ويدارى كل إنسان بما يليق به من المداراة، ويفعل بما يوجب من انجذاب القلوب والمحبة إليه، وعند دخول شهر رمضان كان يرسل إلى غالب أرباب المظاهر ومن دونهم الشموع والهدايا، وعمرت في أيامه الكنائس والأديرة وأوقف عليها الأوقاف الجليلة والأطيان، ورتب لها المرتبات العظيمة والأرزاق الدائرة والغلال]. كما قال عنه الأنبا يوساب الشهير بابن الأبح أسقف جرجا وأخميم إنه كان محبا لكل الطوائف، يسالم الكل، ويحب الجميع، ويقضى حاجات الكافة ولا يميز أحدًا عن الآخر في قضاء الحق.
خلال علاقاته الطيبة مع السلاطين في مصر والأستانة كان يستصدر فرمانات خاصة ببناء الكنائس وإصلاحها. كما قدم الكثير من أمواله أوقافا للكنائس والأديرة، واهتم بنسخ الكثير من الكتب الدينية على حسابه لتقديمها للكنائس.
تٌروى عن المعلم ابراهيم الجوهري مآثر كثيرة أنه كان يقابل السيئات بالحسنات. حدث أن أخاه المعلم جرجس شكي له يوما من رجل من شيوخ المسلمين كان يسبه ويشتمه كلما مرّ به وقد تكرر ذاك منه حتي أنه كره المرور من ذلك الطريق وليس هناك طريق آخر يمُرّ منه، فقال له المعلم ابراهيم: لا شك أن هذا أمر لا يمكن السكوت عنه ولا بد من مجازاة هذا الرجل بقطع لسانه. وأخذ يسأل عنه وعن حاله ومكان سكنه، أرسل إليه كمية كبيرة من الهدايا قمحا وسمنا وأطعمة مختلفة مأونة تكفي حياته لعام دون علم أخيه، وأفهم الخادم أن يعلم هذا الشيخ أن هذه الهدايا من المعلم ابراهيم الجوهري شقيق المعلم جرجس، فلما مر المعلم جرجس مرة أخري على هذا الرجل، انتفض واقفا إجلالًا واحترامًا له، وأبدى له الترحيب والامتنان مصافحا وداعيا له ولأخيه بالخير، فتعجب جرجس من ذلك التحول وسأل أخاه، فأهمه بما فعل وقال "إن جاع عدوك فأطعمه وان عطش فاسقه، فانك بذلك تجمع حجر نار على رأسه" (رو20:12)، ويذلك قطع لسانه عن البذاء وأطلقه بالثناء.
ذات أحد كان المعلم ابراهيم الجوهري يصلي في كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة، وكان متعجلًا فأرسل إلى القمص إبراهيم عصفوري- من علماء عصره- يقول له: "المعلم يقول لك أن تسرع قليلًا وتبكر في الصلاة ليتمكن من اللحاق بالديوان". أجابه الكاهن بصوت مسموع: "المعلم في السماء واحد، والكنيسة لله لا لأحد. فإن لم يعجبه فليبن كنيسة أخرى". إ
ذ سمع المعلم إبراهيم ذلك تقبل الإجابة بصدر رحب دون غضب أو ثورة، ولكنه حسب ذلك صوتًا من الله، فبادر ببناء كنيسة باسم الشهيد أبي سيفين بالجهة البحرية لكنيسة السيدة العذراء. عنما جاء القمص ابراهيم العصفوري لتهنئته على بنائها قال: "حمدًا لله الذي جعل استياءك سببًا في بناء كنيسة أخرى فزادت ميراثك وحسناتك".
عاد المعلم إبراهيم بعد قداس عيد القيامة المجيد ليجد أنوار بيته مطفأة كلها، ولما سأل زوجته عن السبب أجابته: "كيف نستطيع أن نبتهج بالنور، ونعّيد عيد النور المنبثق من القبر الفارغ وقد حضرت عندي في المساء زوجة قبطي سجين هي وأولادها في حاجة إلى الكسوة والطعام؟! وقد ساعدني الله، فذهبت إلى زوجة المعلم فانوس الذي نجح في استصدار الأمر بإطلاق سراحه". فذهب المعلم إبراهيم وأحضر الرجل وزوجته وأولاده إلى بيته لكي يضيء الأنوار ويبتهج الكل بالعيد.
أما ما هو أعجب فإن هذا السجين الذي أكرمه المعلم في بيته وقدم له عملًا، قال للمعلم بأن هناك صديق له هو أولى منه بهذه الوظيفة وأكثر منه احتياجًا، ففرح المعلم إبراهيم باتساع قلب هذا الرجل ومحبته، وقدم عملًا لصديقه أيضا.
تنيح المعلم إبراهيم في 25 بشنس 1511ق الموافق 31 مايو 1795م فكان لوفاته رنة أسي وحزن كبيرين ورثاه كل من عرفوه من اكليرس وعلمانيون. حزن عليه أمير البلاد ابراهيم بك الذي كان يعزه جدا وسار في جنازته إكراما له وإظهاره لما كان له عنده من علو المنزلة، ورثاه البابا يؤنس الثامن.