ذكرنا فى الأعداد السابقة أن الفشل فى إشباع الاحتياجات النفسية المختلفة، وكذلك الفشل فى استثمار المواهب التى أعطاها الله للإنسان، يؤديان إلى الاغتراب عن النفس. وذكرنا من هذه الاحتياجات: 1- الحاجة إلى الحب 2- الحاجة إلى الآخر 3- الحاجة إلى الأمن 4- الحاجة إلى الانتماء 5- الحاجة إلى اللانهاية 6- الحاجة إلى المشاركة 7- الحاجة إلى المعنى.. ونستكمل موضوعنا بالحاجة إلى المرجعية، والإبداع، والتفرد، وتجاوز الواقع!!

8- الحاجة إلى المرجعية:

 
أ- رغم حب الإنسان للحرية: إلا أنه يشعر بأن هناك أمرًا أساسيًا بدونه تتحول الحرية إلى تفكك.. فمع أن لكل فرد خصوصيته، إلا أنه يحتاج دائمًا (كعضو فى الجماعة) إلى المرجع والمعيار، الذى يعود إليه باستمرار لاستكشاف الطريق، والوصول إلى القرار السليم والاختيار الأمثل.
 
ب- لذلك فلابد للإنسان من «جماعة ذات مبادئ وفكر سليم» تساعده فى إشباع ما يحتاجه من معيارية ومرجعية.. ولاشك أن الجماعة قادرة أن تقدم له النور اللازم، والاتجاهات البناءة، التى تبنى حياته وأسرته ومجتمعه.
 
ج- وفى شركة الجماعة تنتفى الفردية: ويحصل الإنسان على «المرجع» المناسب، الذى يقيس عليه تصرفاته وآراءه واتجاهاته..
 
 
ا- فالحياة كائن حى، ينمو مع الزمن، ويفسح صدره لكل الإبداعات الجديدة: التى تساعد الإنسان فى مسيرته الروحية والحياتية.. كائن حى متحرك، ينمو ويتفاعل مع العصر، ومع احتياجات الإنسان، ومشكلاته اليومية..
 
ب- إذن لابد من الإبداع.. سواء على مستوى الجماعة أو الفرد: ولابد أن تعطى الجماعة للفرد فرصة الإبداع.. لا تسحقه ولا تكتم طاقاته، بل يكفى أن تكون كجماعة مرتشدة، ولها جذورها الضاربة فى أعماق التاريخ والتقليد والتراث يكفى أن تكون هذه الجماعة مرجعًا للفرد، ومعيارًا له، حتى لا يخرج عن الخط السليم..
 
وقد شغل موضوع الاغتراب أهتمام الكثير من الباحثين والمفكرين، وذلك لما له من تأثيرات سلبية على حياة الفرد، حيث حاول هؤلاء الباحثون - من خلال الدراسات التى قاموا بها - توضيح علاقة الاغتراب بالعديد من المتغيرات مثل: التوافق النفسى، التكيف، الأبداع والابتكار، حياة الرضا والإنجاز... إلخ.
 
10- الحاجة إلى التفرد:
 
ا- كما أن الإبداع يمكن أن ينشأ عن فرد أو جماعة، هناك الحاجة إلى «التفرد»: بمعنى أن يكون لكل إنسان خصوصيته، فلكل إنسان مواهب معينة أعطاها له الله.. وهو لم يشأ - إطلاقًا - أن يجعل منا مجرد نسخ متشابهة، بل أعطى لكل واحد وزنات ومواهب تختلف نوعًا وكمًا من شخص لآخر، كما يقول الكتاب المقدس: «كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ» (متى 15:25).
 
ب- وبقدر ما تختلف الأعضاء فى الوظائف، بقدر ما تتكامل معًا فى الهدف: «إِنْ قَالَتِ الأُذُنُ: لأَنِّى لَسْتُ عَيْنًا، لَسْتُ مِنَ الْجَسَدِ. أَفَلَمْ تَكُنْ لِذَلِكَ مِنَ الْجَسَدِ؟ لَوْ كَانَ كُلُّ الْجَسَدِ عَيْنًا، فَأَيْنَ السَّمْعُ؟ لَوْ كَانَ الْكُلُّ سَمْعًا، فَأَيْنَ الشَّمُّ؟ فَالآنَ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنْ جَسَدٌ وَاحِدٌ» (1كورنثوس 16:12-27)
 
ج- ومن هنا كانت خصوصية ومواهب كل إنسان موضع تقدير الجماعة، ورعايتها الحانية: أما إذ سحقت الجماعة هذا العضو أو ذاك، فلسوف تخسر بالضرورة إبداعات أعضائها!!.
 
د- وهذه الخسارة دمار على الجماعة كلها.. وتهميش لبعض أعضائها.. ومن هنا يحدث الاغتراب.
 
كيف السبيل إلى محو الاغتراب عن النفس؟
 
1- إن ظاهرة الإحساس بالاغتراب ليست وليدة العصر، بل هى قديمة قدم الوجود الإنسانى. لقد ازداد اهتمام الباحثين خلال النصف الثانى من القرن العشرين بدراسة الاغتراب النفسى بصفتها ظاهرة انتشرت بين الأفراد، فى المجتمعات المختلفة. وربما يرجع ذلك إلى ما لها من دلالات قد تعبر عن أزمة الإنسان المعاصر، ومعاناته وصراعاته، الناتجة عن تلك الفجوة الكبيرة، بين تقدم مادى يسير بمعدل هائل السرعة، وتقدم قيمى ومعنوى يسير بمعدل بطىء وكأنه يتقهقر إلى الوراء. الأمر الذى أدى بالإنسان للشعور بعدم الأمن والطمأنينة حيال واقع الحياة فى هذا العصر، بل وربما النظر إلى هذه الحياة، وكأنها غريبة عنه، أو بمعنى آخر الشعور بعدم الانتماء إليها.
 
2- فلو أن القارئ العزيز جال ببصره مرة أخرى فيما مضى من حديث، فسوف يضع يده بالضرورة على العلاج المطلوب، والأسلوب الأمثل، فى قيادة النفوس أفرادًا وجماعات، حتى لا يشعر أحد بالاغتراب.
 
فالشخص المغترب يعانى من الشعور: بالعجز، أو بحالة من الرفض وعدم الرضا، تظهر فى علاقته بمجتمعه: بضعف الثقة بالنفس، أو بعدم جدوى الحياة ومعناها، أو بالعزلة وعدم الانتماء، أو بالسخط والقلق ورفض القيم والمعايير الاجتماعية.
 
ختامًا: لعل ما ذكرناه سابقًا يمحو الاغتراب ويتلخص فى أمرين:
 
1- إعطاء الفرد فرصة، من خلال إنسانيته، وخصوصيته، ووزناته، ومواهبه، وإسهاماته مهما كانت بسيطة.
 
2- تغيير البيئة الاجتماعية للجماعة، بحيث تسمح بأن تكون راعية للفرد، ومرجعًا له فى آن واحد.
 
إن العمل الجماعى، الذى لا يفقد فيه أحد دوره هو السبيل إلى تكوين الشخصيات التى لا تشعر بالاغتراب، فلا القائد يفقد دوره، ولا العضو يفقد دوره، ولا الجماعة تفقد دورها، بل يعمل الكل فى تناسق ومحبة واحترام متبادل، فيسير العمل كسيمفونية جميلة، ولا يحدث معها اغتراب أو خسارة...
 
- لكل فرد دوره..
 
- وللجماعة كلها دورها..
 
- والكل يعمل فى تناسق بنّاء..
 
- وهكذا تعزف السيمفونية الجماعية أعذب ألحانها!!
 
* أسقف الشباب العام
 
بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية
نقلا عن المصرى اليوم