أمينة خيرى
ليس هناك ما هو أفضل من الصلاة والتضرع إلى الله. وليس هناك ما هو أنقى من أن يشعر الإنسان بأنه قريب من الله، يكلمه ويدعوه ويتواصل معه ويحبه ويخشاه على مدار اليوم. وليس هناك ما هو أحلى من أن ينتقل هذا الرقى والسمو من شخص إلى آخر ليشعر الجميع بحلاوة الإيمان وروعة الأمان.
لكن أن تتحول هذه الحلاوة إلى فرض عضلات وتوغل صوت وتوحش أدوات، فهذا لا يمت للإيمان بصلة ولا يقترب من الأمان قيد أنملة. تحول قاعدة عريضة فى مصر من الإيمان الفعلى، حيث الأخلاق والسلوكيات والمعاملات تعكس رقياً وسمواً ورحمة وأدباً وتهذباً وإنسانية وتسامحاً وقبولاً للآخر، إلى إيمان شكلى، حيث مظاهر التدين الشكلى من ملابس وكلمات مستوردة من ثقافات أخرى وأحكام تُطلق على الآخرين، مصنّفة إياهم إما مؤمنين مصيرهم الجنة بإذن الله أو كفاراً مآلهم جهنم وبئس المصير بناء على أحكام مشايخ التطرف والتشدد والقبح واحتكار الدين والهيمنة على التفسير وإعلاء المظهر وتجاهل الجوهر، كل التجاهل، أدى إلى ما نحن فيه اليوم من مأزق كبير.
تطالب بفصل الدين عن السياسة، ينعتونك بكراهية الدين ومحاربة المتدينين. تنتقد تحول أجزاء من محطات المترو وبهو الوزارات وطرقات المؤسسات وأرصفة بالكامل إلى زوايا للصلاة رغم وجود كم هائل من المساجد، يفترضون أنك حتماً تفضّل نشر الفسق وبث الفجور. تعترض على مكبرات صوت مهولة مثبتة على مساجد لا يفصل بين الواحد والآخر سوى بضعة أمتار، ويجرى بث الصلوات كاملة بأصوات منفرة بما فيها صلاة الفجر، فيباغتونك بالتهمة سابقة التعليب: «كاره للدين ومن باب أولى يعترض على الرقاصات». تتساءل عن الغرض من استفتاء المشايخ الكرام فى حكم عبور الشارع وأكل السمك المقلى دوناً عن المشوى وضرب الزوجة وإهانتها لتقويمها من قبَل زوج جاهل، ومزج العدس بالأرز، فيأتى الرد الهجومى جاهزاً: «نراك تحارب الشريعة وتدعو إلى الرذيلة». تترحم على زمان وناس زمان ورقى زمان قبل هجمة التدين المظهرى منزوع الجوهر، يضعونك فوراً فى خانة عدو الدين المتغنى بفضائل الجاهلية الأولى. والأمثلة والنماذج لا تنتهى لأنها تدق على رؤوسنا يومياً وعلى مدار الساعة.
محطة بنزين صغيرة فى مدخل مدينة الشروق ينبع منها صوت الأذان جهورياً بدرجة لافتة، وبعد الأذان يتم بث الصلاة كاملة متكاملة. يتضح أن أحدهم قام ببناء زاوية من الصاج فى داخل المحطة، وألحق بها مكبر صوت على ما يبدو أنه الأكبر فى السوق. تسأل العاملين عن الغاية من هذه الزاوية، يباغتك الرد المصنّف لك باعتبارك فاسقاً بكل تأكيد: «وهو حد يكره الصلاة وذكر اسم الله؟!» تتقوقع وتتقزم خوفاً من إقامة الحد عليك.
وفى داخل مدينة الشروق عشرات المساجد المتلاصقة التى قرر القائمون عليها التنافس فيما بينهم فى أيهم أعلى صوتاً، مع العلم أن جانباً كبيراً من الأصوات المؤذنة لا يمكن أن تكون تابعة لوزارة الأوقاف، حيث قبح الصوت وسوء مخارج الألفاظ ونشاز الإيقاع. وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، بل إنه إمعاناً فى إظهار التدين والتعبير عن القرب من الله، وربما دعوة غير المؤمنين إلى الإيمان، أصبح بث الصلوات فى المكبرات المتداخلة أمراً واقعاً.
وقوع مصر فى براثن هذا النوع من التدين يحتاج نقاشاً وعلاجاً. وعلى المتناقشين والمعالجين أن يعلموا مسبقاً أن المنتمين لهذا النوع من التدين الذى غمر مصر إلى درجة التشبع لا يعرفون من «التدين» إلا هذا التدين الزاعق الشكلى. بمعنى آخر، هم شبوا على ذلك، فشابوا عليه وورّثوه لأبنائهم وبناتهم. بمعنى ثالث، العلاج ليس أمنياً ولا جراحياً بل يحتاج سنوات من علاج الجذور. هؤلاء المتدينون تعلموا وتدربوا كذلك بأساليب غير مباشرة طيلة سنوات تنشئتهم «المستوردة» على ما يُعرف بالانحيازات الفكرية «Cognitive biases».
فكر هؤلاء يتسم بعمل ارتباطات وهمية بين الأشياء، والانحيازات المفرطة للماضى واعتبار كل تحديث أو تطوير عنصر خطر، والإدراكات الساخنة لدرجة الالتهاب، حيث التفكير يجب أن يكون مصحوباً بالعاطفة والإثارة، والانحياز الكامل للمجموعة وأفرادها، حيث يتسم الجميع بنفس الصفات والتصرفات والملابس واعتبار كل ما عدا ذلك عدواً وشراً، مع تشبث مرضى بالانحيازات سابقة التجهيز، والتى لا ترى سوى الأفكار والأفراد المطابقة لفكرهم، والتى تعتبر ما نشأوا عليه من تفسيرات للمعتقدات هى وحدها فقط الصحيحة والباقى كله شر مطلق يجب محاربته.
نحن جميعاً فى سفينة واحدة. ومظاهر التدين الموجودة حالياً فى مجتمعنا والتى تتوغل وتنتشر وتنمو بينما نتحدث كفيلة بإغراق السفينة ومن عليها. وعلى راغبى الإنقاذ تسليح أنفسهم قبل خوض الإصلاح بمعرفة مسبقة للاتهامات سابقة التجهيز والتعليب والمراد بها ترهيبهم وتخويفهم وحبسهم فى زنزانة أعداء الدين وكارهى المتدينين.
نقلا عن الوطن