عادل نعمان
والعلم عند الله، فإن هؤلاء يعكسون ويقلبون كل الأمور المستقيمة والمعدولة، وينقضون كل المقولات المأثورة والموروثة، ويستبدلون الخبيث بالطيب، ويبدلون السديد بالأسوأ من القول والرأى، ويقفون مع الغريب فى خندق واحد ضد بلادهم وأهليهم، ولا يخجلون ولا يستحون، ألا لعنة الله عليهم وعلى أجدادهم وأسلافهم، وعلى كل من سار فى ركابهم أوله وآخره، ووالله لن يضر الوطن شيئاً حتى لو رفعوا السلاح فى وجهه مع الأعداء، فلهذا الوطن أهله وعزوته وسندته، يقفون فى الشدائد كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، لا وقت عندهم للوم أو العتاب أو التأنيب أو التعنيف، وقت الشدائد والمحن هو وقت الاصطفاف، كتفاً بكتف ويداً بيد، ولما قالوا أنا وأخويا على ابن عمى، وأنا وابن عمى على الغريب، كان رحمة الله عليه يرتب درجات الخلاف والخصومة والعداوة بين أبنائه وأولاد عمومتهم والغرباء، فيقف الأخ مع أخيه ضد ابن عمهما إذا حدث معه خلاف، ويقفان مع ابن عمهما ضد الغريب إذا كان بينهما خصومة أو عداوة، حتى لو كان الخلاف بينهم جميعاً قائماً، فينام الإخوة وأولاد العم على خلاف فيما بينهم، ويصبحون على الغريب يدبرون ويكيدون له، هكذا علمنا أجدادنا فى قرانا وبيوتنا، أما هؤلاء فقد ربتهم الجماعة على الولاء لها، وتجاوز مصالح الوطن وأمنه وسلامته إلى مصالح الغير حتى لو كان عدواً، فنحن فى ترتيب الأحباء بعده يمدون طوق النجاة إلى الغريب قبل القريب، ويطربون لزمار الحى البعيد، ويبيعون أوطانهم وأهليهم فى سوق الخلافة العثمانية الواهية، فما ربحت تجارتهم وتجارة آل عثمان الأوغاد.
أما عن الإخوة والأخوات وأولاد العم الحقيقيين، أولاد الأصول، وأولاد البلد الطيبين، وليس هؤلاء، فهم تحت مظلة الوطن وفى عرضه وفى طوله يتزاحمون، ويسندون ويتساندون، كل على قدر ما يطول، المهم أن يقف الجميع يصدون المحنة والشدة، فلا يتزحزح الوطن من مكانه إلا وكانوا تحت عجلاته صرعى، هذا هو الوطن وهؤلاء هم أبناؤه وهكذا يجب أن يكونوا.
الغريب أن هؤلاء يستظلون بظله وبسمائه، ويتنفسون هواءه، وينعمون بخيراته، ويأمنون على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، إلا أن عيونهم وقلوبهم وعقولهم وسيوفهم عليه، يشمتون فى الموت، ويعايرون الناس كلما ناحت نائحة، ويأسفون إن نجحنا، ويحزنون إن فلحنا، ويقيمون الأفراح والليالى الملاح إن أصابتنا الملمات والنوائب والعسرات، ويقيمون المآتم والأحزان إن لحقنا بالمسرات والرخاء، يبيتون ليلهم تضرعاً أن تلم بنا الخطوب والكروب والبلايا، عيدهم فى خراب بيوت إخوتهم، وفرحهم فى أحزانهم، الفارق بينهم وبين ابن البلد أنه يلوم ويعاتب وينتقد ويتمنى أن يخيب ظنه، ويحزن ويأسى على ما يراه، ويطلب من ربه أن يسلمها من الشر والفتن، ويدعوه «يجيب العواقب سليمة» بالضبط على شكل «أدعى على ابنى وأكره اللى يقول آمين»، حتى إذا مرت وسلمت، حمد الله على سلامتها ونجاتها من الشر ولام نفسه وعاتبها، ولسان حاله يقول «اللهم اخزيك يا شيطان».
هؤلاء قوم يظنون بالدين ظن السوء، ويحسبون أنه يقدم مصلحة الدين على مصلحة الناس، ودوماً يكذبون علينا ويقولون أينما توجد مصلحة الأمة فثم شرع الله، والأمة تبدأ من هنا من البيت، ثم الشارع، فالقرية، فالمدينة حتى كامل الوطن، فإذا ما تبقى من الحب جانب راح إلى الغير، فلا مصلحة تعلو على مصلحة مصر، ولا ولاء يسبقها مهما كان، حتى لو كان هذا الولاء لهذه الأممية الإسلامية التى يتشدقون بها، فلن يفلح الوطن إلا إذا فلح البيت، والشارع والمدينة، ولا تقام الأمم على أنقاض أهلها، ولا تصح المدينة إلا إذا صلحت القرية، ولا أمة إسلامية أو عربية إلا إذا قامت الأمة المصرية والأمم الأخرى، وعاشت فى سلام مع العالم، وهؤلاء يظنون أن الحياة قد خُلقت لهم دون غيرهم، والله لو عاشوا بمفردهم كما يتمنون لجافوا ونتنوا.
الإخوة والأخوات وأولاد العم من المسلمين والمسيحيين أولاد البلد وأصلها وتاريخها، ومن الناس الطيبين، المحبين للخير وللجار وللأرض وللعرض، اليوم يوم الملحمة، يوم المعركة والموقعة، يوم تواجه مصر شدة وابتلاء، من الجنوب شدة، ومن الشمال الغربى ابتلاء، ماء من الجنوب ونار من الشمال الغربى، والله المستعان، وبكم العون، ومنكم المدد والسند، فلا خلاف اليوم ولا عداوة غداً، الكل فى واحد، فوالله يتمنون لكم غرقاً فى الجنوب وحرقاً من الشمال، لعنة الله على من يكره بلادى من القريب أو الغريب، من الإخوان أو الخلان، وعاشت مصر حرة عزيزة أبية، هذا البيت تذكرونه دائماً لأبوفراس الحمدانى «بلادى وإن جارت على عزيزة وأهلى وإن ضنوا علىّ كرام».. نعم عزيزة حتى لو نمنا فيها بلا غطاء.
نقلا عن الوطن