عادل نعمان
لو نزل الإسلام في مصر لكان له وللمسلمين شأن آخر، وكانت الموعظة الحسنة سبيلًا ومنهجًا للدعوة ليس غير، الناقل له تأثير كبير على المنتج، ووسيلة النقل أيضًا، يزيد إليه أو ينقص منه أو يفسده، فالبداوة وجفاؤها قد غطت الدين بطبقة جافة صلبة غير نعومته التي كان عليها، والخشونة وشظف العيش وقسوة الحياة، ووسيلة التكسب والارتزاق من الغزو، والخلافات التاريخية بين أحفاد قصى بن كلاب على الريادة وسقاية الحجيج، كان لها الأثر الأكبر في تغيير منهج الدعوة من السلم والمجادلة إلى الحروب والغزو والقتال، وأصبح السيف هو الحَكَم والفيصل، به تُحسم الخلافات، وتتغلب خلافة على الأخرى، وليس بالحوار أو بالرضا، بل تم تصدير هذا المنهح إلى البلاد الموطوءة على أنه منهج شرعى، فزاد الجفاء والخصام والفرقة بين المسلمين وغيرهم. وكان للوضاعين والنُّساخ والقصّاصين دور بارز في زيادة جرعة الخرافات والأساطير البعيدة عن العقل والمنطق، المقبولة في حينه، للسيطرة على عقول الناس وفرض حكمتهم عليهم، تتكشف حقيقتها يومًا بعد يوم كلما زادت مساحة العلم والتنوير، لتؤكد أن الرسالة للعبادة وليست رسالة في العلم أو الطب أو الهندسة، وهى جوهر الرسالة المحمدية، هذه الخلطة، التي تمت عن عمد، تجعل الفصل بين الأصل والفروع أمرًا شائكًا، يهدد الأصل في الكثير، إلا ما اقتنع به العقل ووافقه الضمير.
ولقد حظيت مصر بنعمة التعايش السلمى بين أصحاب الأديان، المسلمين والمسيحيين واليهود وغيرهم، حتى القوميات المختلفة عاشت في أمان وسلام، وهو الداعم لبناء حضارى متميز، فالحضارات لا تبنيها الأديان، بل تبنيها الشعوب بقومياتها المختلفة وتنوعها وثقافاتها المتباينة، ولم تتأثر الطبيعة المصرية بفكر البداوة، فلم نقرأ عن تكوين جحافل من الجيش الإسلامى من المصريين لغزو البلاد المجاورة، كما رُوى عن الرسول ونصحهم به، وربما كان الغزو مقصورًا على بدو الجزيرة من الأعراب ليستأثروا بالغنائم والأسلاب، على مبدأ أنهم أَوْلَى بالدعوة، وحلَّل الله لهم الغنائم وحقوق الناس دون خلق الله، وهى خصوصية لا أتصور معقوليتها. وركب الحضارة هذا كنا في مركزه ودائرته، نسير سيرهم، ونعمل ونتعلم ونتجاوب ونتفاعل في سلام قدر ما يصنعون، حتى بدأت الهجرة إلى الخليج، وعاد هؤلاء مرة أخرى بإسلام البداوة، يفرضونه فرضًا، ويقيمونه جبرًا كعهد الغزاة الأُوَل، ساعدهم على هذا التميز المادى، الذي أغرى قطاعًا عريضًا من الناس بالانتساب إليهم نفاقًا أو هروبًا أو طمعًا، ومنهم مَن ضلَّ، ومنهم مَن عف نفسه عن هذا البيع وهذا الشراء، ولو كانوا قد عادوا على غنى غير ذاك الفقر، وعلى حضارة غير التي انقطعت بثورات الجهلاء، لسخر الناس منهم ومن زيهم، وحبسهم الناس مخافة العدوى، إلا أن أحوال الناس قد مهدت لهم الطريق في السيطرة والولوج إلى نفوس البسطاء وهم المصدر والمنتهى، وانقسم سلوك المجتمع إلى إسلام البداوة والصحراء، خشن الطباع في القول والفعل، غليظ التصرف، عنيف الخصومة، المتعالى والمتعجرف والمتسلط، الذي لا يؤمن بالتسامح منهجًا في التعامل أو في الدعوة، ولو تركنا له الحبل على الغارب لقتل كل مَن يختلف معه في الرأى، وإسلام الحضارة الناعم الأنيق المتحضر، الذي يقبل الجميع دون ضجر أو تأفُّف، المتسامح مع غيره من أصحاب الديانات الأخرى، وتجلى هذا الانقسام بوضوح في الشارع والعمل حتى في البيت الواحد، كل منهما يشد في اتجاه مختلف عن الآخر، وكلما زادت مساحة التنوير والحضارة، تمترس الطرف الآخر بالساتر البدائى، وارتدوا إلى الخلف يشدون الحبال أكثر مما يجب أو تحتمل، وأصبح العنف وسيلة التفاهم والمواجهة وليس الجدال، على نهج الغزاة الأُوَل.
هذا الصراع بين القوميتين أو الحضارتين تزداد حدته يومًا بعد يوم، وفرصة الحوار أصبحت ضعيفة، إلا أنها الوحيدة التي لا مفر منها، ولما قلنا ربما ما يقوم به الأمير محمد بن سلمان في الدولة التي صدَّرت الدين للدنيا كلها، من تصحيح للكثير، قد يرفع الغشاوة والعمى عنهم، ويعودون إلى رشدهم، ويعلمون أن ما يدعون إليه ويتمسكون به هو الغطاء الصلب الذي وضعه أسلافهم فترة الجهاد الأفغانى، وما نادى به أسلافهم هو غطاء أسلاف الأسلاف، وهكذا حتى أحسب أنهم لو عادوا إلى أصل الدين ربما كان بسيطًا على بساطة الناس، سهلًا ومختصرًا ولينًا على قدر فهمهم لا يزيد، إلا أن هذه المبادرات قد زادت في انعزالهم وهجرهم، يشدون الناس شدًا إلى الخلف، يكسرون كل قواعد العقل الناضج الواعى، ويغوصون أكثر في جاهلية فكرية ربما تعود إلى جاهلية الجهلاء، وهو هروب من المواجهة والمجادلة، وربما كان هذا المنهج ناجحًا فيما سبق، إلا أنه أصبح مأسوفًا عليه في عصرنا هذا.
إلا أن ما كان وباء الوباء وكارثة الكوارث، التي ساعدت على شرخ جدار حضارتنا، هو قوميات التعليم المختلفة والمتباينة، تعليم دينى وتعليم مدنى، وتعليم دولى متنوع ومتشعب، المسافة شاسعة بين الجميع، وهو جد أمر خطير، مما يجعل الخطوة الأولى هي النهوض فورًا بالتعليم، على أن يكون ذا طابع قومى واحد، حتى تتلاشى هذه القوميات الدينية بالذات، وتُستبعد الأجيال الصاعدة من تأثير حضارة الصحراء والبداوة التي تهيمن على عقولهم منذ الصغر، بعد أن فقدنا الأمل في جيلين أو ثلاثة ذهبوا ولن يعودوا، وأول خطوة في النهوض بالتعليم منع الحجاب والنقاب في المدارس وهذا التمييز الدينى والطائفى، ثم تعديل المناهج الدراسية تعديلًا جذريًا، وهو بداية الحل والثورة.
نقلا عن المصرى اليوم