أحمد الجمال
كنت قد أعددت مادة للكتابة عن داعش من زاوية ما أعلنته بعض الجهات عن عدد الدواعش فى العراق وسوريا، وإلى أى الدول ينتمون، ولكنى أؤجل ذلك بما فيه من سواد وآلام، كى أكتب عن بؤرة ضوء إنسانى إيمانى من طراز رفيع، ولا أكتم قارئى سرًا إذا قلت إننى كم تمنيت أن تصبح مدارسنا ودور عبادتنا الإسلامية والمسيحية، بل وكل ما له صلة بالطفولة وبالذوق الإنسانى عمومًا، على النحو الذى يبهر من يعايشه، وقد شاء حظى الطيب أن أعايش الأمر أكثر من مرة!.. ثم إننى قبل أن أدخل فى التفاصيل أرى واجبًا عليّ أن أشير وأشيد بالجهد المتميز الهائل الذى يبذله أبونا بطرس دانيال الفرنسسكانى، ليقدم النموذج الفذ لمن له صلة بالدعوة الدينية، سواء كان من رجال الدين على النحو المسيحى، أو كان من الدعاة علماء الدين على النحو الإسلامى، لأننا إزاء إنسان أولًا وآخرًا يعرف معنى الإنسانية وانعكاساته على الروح والعقل والسلوك.. ثم كيف يمكن لمن يرتدى زى الرهبنة أن يكون فى الوقت نفسه عازفًا على البيانو وغيره، ومؤلفًا وموزعًا للألحان والموسيقى، وكاتبًا وشاعرًا وناقدًا ومربيًا وإداريًا.. ومع كل ذلك لا تفارق البسمة وجهه، ولا يعرف العبوس والتأفف طريقًا لقسمات وجهه ولا كلماته.. إننا وببساطة شديدة أمام تكوين إنسانى أدرك أن العلاقة مع الله تلتقى مع العلاقة بالناس فى نقطة محددة.. أى أنه محور رأسى بينك وبين السماء ومحور أفقى بينك وبين البشر يلتقيان ولا ينفصلان وهذا عندى، وقد أكون مخطئًا، هو الصليب الذى يجب أن يحمله كل من أراد أن يتبع السيد له المجد.
لقد تأسست الرهبنة الفرنسسكانية'> الرهبنة الفرنسسكانية - حسبما أتيح لى من معلومات سريعة - على يد القديس فرنسيس الأسيزى فى شمال إيطاليا، عند مطلع القرن الثالث عشر ميلادى 1208، وثبت قواعدها المنظمة لها البابا أنوسنت الثالث عام 1209 وهى تعتمد على روحانية القديس فرنسيس الأسيزى، التى تحض وتأمر بالاهتمام بالفقراء، والعمل على تنمية أوضاعهم تنمية مستدامة، وحيث كان القديس من عائلة إقطاعية ثرية، ولكنه وهب أملاكه للفقراء متخليًا عن الثراء الشخصى، ليعيش فقيرًا كما عاش السيد المسيح، إضافة لاهتمام الرهبنة الفرنسسكانية'> الرهبنة الفرنسسكانية بالبيئة والطبيعة، وعبر تاريخها فإنها اعتبرت نفسها حامية للأماكن المقدسة فى فلسطين، وقد مرت هذه الرهبنة عبر القرون من القرن الثالث عشر وما بعده، ظروفًا عديدة، وشهدت أحداثًا تفصيلية لست بصدد التوغل فيها، ولكن إضافة للمؤسس القديس فرنسيس الأسيزى، فإن هناك شخصية أخرى تعتبر المؤسس الثانى للرهبنة هو القديس StBanventure الذى ولد عام 1217 وتوفى فى 15 يوليو عام 1274، وكان مسؤولًا كبيرًا فى الفترة من 1257 إلى 1274.
إننا إزاء نظام متكامل فيه الروحانية الواعية المتجردة والزهد، وفيه خدمة الفقراء كواجب أول يسبق كل الواجبات، وفيه الاهتمام بالبيئة والطبيعة، وفيه الاهتمام بالتربية والتعليم، كما أنه فيه الاهتمام بالملكات الإنسانية، خاصة التذوق الفنى والارتقاء بالمشاعر عبر الموسيقى والإنشاد.
ولقد عشت مع غيرى وقتًا رائعًا مع أبينا بطرس دانيال داخل كنيسة القديس يوسف فى وسط القاهرة، وهو يعزف على البيانو، فيما الموهوبون بالعشرات من عمر ثلاث سنوات فقط، صعودًا إلى الكبار من مراحل عمرية مختلفة، يقفون فى صفوف أمام قادتهم، ولأكثر من ساعتين، يؤدون الترانيم فى أربعة وعشرين لحنًا أو ترنيمة، كل منها شديد الجمال والتأثير، خاصة أن الترانيم ضمت ملحنين وموزعين، ونصوصًا من الكتاب المقدس، وأخرى من تأليف مؤلفين من أكثر من دولة.. وكم كان وسيبقى جميلًا ومؤثرًا أن يشاهد المرء أطفالًا فى عمر مبكر، أى ثلاث سنوات، وهم يتمايلون ويرنمون تحت سقف الكنيسة، ومعهم عازفون شبان وما فوق، فيما الأيقونات والتماثيل البديعة والنقوش مع المعمار شديد التكامل والقوة، بما فى ذلك القبة بالغة الارتفاع، وكل ذلك فى تعشيقة روحانية راقية.. وعندئذ أظن أنه من الوارد ومن المشروع أن يسرح المرء بفكره وخياله وأمنياته من داخل تلك الكنيسة إلى ربوع مصر كلها، ليكون السؤال هو: متى يمكن أن يتكرر هذا النموذج فى كل كنائسنا الوطنية بصرف النظر عن مذهبها، وفى مساجدنا ومدارسنا، لنجد أجيالًا طالعة تعرف أن الإنسانية، وأن القيم الجمالية والذوق الفنى الرفيع، لا تنفصل عن القيم والعقائد والعبادات الإيمانية؟!
كل سنة ونحن جميعًا بخير.. وتحية للرهبنة الفرنسسكانية ولرئاستها وآبائها الموقرين، وللصديق جناب الأب المبدع أبونا بطرس.
نقلا عن المصرى اليوم