كمال زاخر
الحالة المصرية وتشابكات اللحظة ... اقتراب قبطى !!
العقل الجمعى للأقباط محتشد بأسئلة مزمنة، شكلتها عوامل عديدة، بعضها موغل فى القدم يمتد إلى الدخول العربى وتقلبات الحكام ودولهم فى الأحقاب المتتالية، والتى انتهت بالحقبة العثمانية، وبعضها مع ارهاصات تشكل الدولة الحديثة، بعد صدمة الحملة الفرنسية وقدوم محمد على، وبعضها مع يوليو 52 والمرحلة الناصرية، ومرحلة الصدامات التى احتشدت بها سنوات السادات وامتدت بالقصور الذاتى مع مبارك ومرحلته التى تعمق فيها حضور الإسلام السياسى وقفزه ليحتل مواقع متقدمة فى مفاصل الدولة.
وثمة اسئلة قبطية مؤرقة تمسك بمرحلة 25 / 30، والممتدة من عام 2011 وحتى اللحظة، والتى اصبح الإقتراب منها محفوف بالمخاطر، والتوجس، خشية أن تدخل بالأقباط فى دائرة الإحتراب السياسى بين الفرقاء.
على أن المشترك بين كل هذه المراحل أن الأقباط ـ المواطنون المصريون المسيحيون ـ ظلوا رقماً محورياً واساسياً فى المعادلة المصرية، ولا يمكن قراءتها بدونه، رغم تحولهم إلى أقلية عددية، ورغم أن القبط هى التسمية التى أطلقها العرب فى دخولهم مصر على سكانها، ولعله النطق العربى لإسم مصر اليونانى السائد وقتها "جبت" بالجيم المعطشة، التى تحولت فى اللسان العربى إلى قاف، اللافت أنه مع التحول الديمغرافى الدينى (التغير التاريخى للتركيبة السكانية وفقاً لاعتناقها الدينى) الذى شهدته مصر، فى القرنين العاشر والحادى عشر، والتى تحول فيها المصريون المسيحيون إلى أقلية، لتصير الأغلبية مسلمة، ينحصر لقب أقباط فيمن بقوا مسيحيين دون غيرهم، ربما فى مشابهة لربط اللغة العربية بالإسلام، رغم أنها صارت لغة كل المصريين، لكنه الهوى الشعبى
وهو نفس الهوى الذى يُطلِق على أثرياء الأقباط فى الدلتا والصعيد لقب "خواجة"، وهو اللقب الذى يشير بالأساس إلى الأجانب، المقيمين فى الريف والحضر المصرى ما بين الحملة الفرنسية وحتى نهاية حكم الأسرة العلوية، وهو الأمر الذى يحمل دلالة شعبية، فى النظر للأقباط، حتى قبل المد المتطرف الذى شهدته سنوات ما بعد قدوم السادات.
فى ظنى أنه الهوى الذى أسس لاستبعاد الأقباط من المشهد السياسى والمجتمعى أيضاً، فلماذا تفاعست الأنظمة المتعاقبة عن مواجهته عبر آليات تشكيل الذهنية العامة، التعليم والإعلام والثقافة، بل حدث العكس إذ تضافرت هذه الآليات فى تعميق الهوى العام، بين العمد والجهل.
وفى ذات السياق نتوقف عند مقولة الدكتور ميلاد حنا فى رصده للحالة القبطية "أن الدولة اختزلت الأقباط فى الكنيسة، واختزلت الكنيسة فى الإكليروس، واختزلت الإكليروس فى البابا"، وقد نفهم هذا الرصد إذا ربطناه بما ذكر عن إعجاب عبد الناصر برواية توفيق الحكيم "عودة الروح" وكلمات التصدير لها "عندما يصير الزمن إلى خلود، سوف نراك من جديد، لأنك سائر إلى هناك، حيث الكل فى واحد." (وهى مقتبسة من نشيد الموتى، نقلاً عن كتاب الموتى ـ الخروج إلى النهار ـ الذى يضم مجموعة من الوثائق الدينية والنصوص الجنائزية التي كانت تستخدم في مصر القديمة، لتكون دليلاً للميت في رحلته للعالم الآخر.).
وقد استقر عندنا أنه عندما يريد الأقباط أمراً من الدولة يذهبون به إلى البابا البطريرك، الذى يحمله إلى المسئولين، وإذا اراد المسئولون أمراً من الأقباط يدفعون به الى البابا البطريرك الذى ينقله عبر قنواته وربما عظاته إلى الأقباط، ولعلنا مازلنا نذكر الاحتجاجات العاصفة التى شهدتها باحات الكاتدرائية من جموع الأقباط فى اعلان غضبهم على ما يحيق بهم من استهدافات، فيما كان مكانها الطبيعى والصحيح أمام البرلمان أو القصر الجمهورى، لكنها المعادلة التى استقرت عند كافة الأطراف. حتى انفجرت ارادات الغضب فى 25 يناير 2011. فوجد الأقباط مكاناً لهم فى التحام تاريخى فى ميادين التحرير بالعاصمة والمحافظات.
ورغم ذلك مازال هناك من يريد أن يوقف هذا الالتحام والعودة إلى ما كان، ليرتد الأقباط إلى الإحتماء بأسوار الكنيسة، حتى لا يتوقف هذا الإختزال، ولعلنا نجد اجابة على سؤال لماذا الإصرار على الرجوع إلى الكنيسة فى شأن اختيار الكوادر القبطية فى البرلمان، ودعم من يخوضون الانتخابات منهم، أو اعتماد من يعينون منهم. ولم يعد رأى الكنيسة استرشادياً، وفق ما تقول به تصريحات الأساقفة المتصدرين للمشهد السياسى دون غيرهم.
وعلى ضفاف الإستبعاد الذى صار تقليداً مستقراً تواجهنا موقف الجامعات المصرية من حجب أقسام بعينها عن الأقباط، لعل ابرزها قسم أمراض النساء والتوليد بكليات الطب، دون مبرر علمى، ومن المضحكات المبكيات أن من اسس هذا القسم هو الطبيب المصرى الدكتور نجيب محفوظ (نجيب ميخائيل محفوظ) "1882 ـ 1974"، وتزداد المفارقة عندما نقرأ أنه في سنة 1950 تقرر جامعة القاهرة إنشاء جائزة بإسم الدكتور نجيب محفوظ، "تخصص لتشجيع البحوث في علوم أمراض النساء والولادة. وتُمنح لمن يقدم أحسن بحث"!!. لتمتنع الجائزة فيما بعد عن الأقباط، والسؤال لماذا؟.
وفى سياق الاستبعاد نقرأ حكايات الدكتور مجدى يعقوب، والمهندس هانى عازر على سبيل المثال، ربما لأنهما الأشهر، ولا نريد أن ننكأ جراحاً نسأل أن تندمل، ولكنهما مع غيرهم يشكلون سؤال لماذا؟.
قد يتضرر الأقباط من هذا الاستبعاد، لكنهم بشكل أو بأخر يجدون مخارج بجهد ذاتى ويحققون نجاحاتهم، لكن الوطن يتضرر قبلهم ولا يجد من يجبر الضرر الفادح عندما يحرم من كفاءات أمينة، بهذا الإستبعاد الذى يأتى خصماً من قدراته على مواجهة ازماته، وربما تفسر الكثير مما اصاب المشهد العام من تراجع المهنية والكفاءة بقدر ملموس، حتى أن الدولة تضطر إلى استدعائهم للمشاركة فى تنفيذ طموحاتها فى مشاريعها الكبرى بعد أن حققوا مواقع متقدمة فى تخصصاتهم فى الغرب، ليقفز السؤال المزمن مجدداً ... لماذا؟.
وعندما انتفضت مصر مجدداً فى 30 يونيو 2013، كان الأقباط يمثلون الرقم المرجح، ربما لأنهم كانوا الأكثر استشعاراً بالخطر الذى يلف الوطن وهم فى القلب من الإستهداف، وفى 3 يوليو يتم الإعلان الرسمى باسترداد مصر بعد جملة اعتراضية امتدت لعام من الزمن، وارتفع سقف التطلعات لإعلانها دولة مدنية تستوعب التنوع والتعدد، وتضع نقطة فى نهاية سطر طال، من التمييز والإرتباك، منذ تسلل النص على دين للدولة الى دستور 23، واستفحل فيما تلاه من دساتير، وتشكلت لجنة الخمسين لتعديل الدستور بما يترجم تطلعات 30 يونيو، وكانت التصريحات تذهب إلى اعلان مصر دولة مدنية، وإلى النص على وضع قانون ينظم بناء دور العبادة فى المطلق، فإذا بالإعلان يختفى من نصوص الدستور، وينحصر فى ديباجته بتحوير مراوغ يفقده مدلوله تقول "نحن الآن نكتب دستوراً يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية."، وإذا بإلزام البرلمان بسن قانون لبناء دور العبادة يتحول إلى الزام بسن قانون لبناء الكنائس "يصدر مجلس النواب فى اول دور انعقاد له بعد العمل بهذا الدستور قانوناً لتنظيم بناء وترميم الكنائس، بما يكفل حرية ممارسة المسيحيين لشعائرهم الدينية."(مادة 235). والفرق كبير بين الأمرين.
وعندما يبدأ البرلمان فى مناقشة مشروع القانون يحاط الأمر بسرية شديدة، إلا من تسريبات غير موثقة، وقبيل جلسة إقرار المشروع يعلن نصه، وتبادر النخب المثقفة بمنافشة ما أعلن، وتبدى تخوفاتها من تداعيات اعتماده بهذا الشكل، وتتشكل منهم "تنسيقية المواطنة" التى تبادر بعقد مؤتمر "معلن" لمناقشة مشروع القانون، ينتهى إلى صدور تقرير بما انتهوا إليه من رأى بشأنه شارك فى بلورته خبراء دستوريين وقانونيين وسياسيين واساتذة جامعيين، مسلمين ومسيحيين، وقدموا هذا التقرير للبرلمان ولرئاسة الدولة يداً بيد، ولم يُلتفت إليه، ليصدر القانون معيباً، ويتم به تقنين معاناة بناء الكنائس. ليقفز السؤال المزمن مجدداً ... لماذا؟.
وفى ظل السعى المحموم لجماعات الاسلام السياسى المتطرفة للعودة للحكم، تشهد المحافظات ذات الكثافة المسيحية، المنيا نموذجاً، موجات من الأعمال الإجرامية ضد الأقباط، شخوصاً ومنشآت خاصة وكنسية، وتأتى المواجهات مرتبكة ومترددة، تنتهى فى كثير منا إلى عقد جلسات صلح عرفية افتئاتاً على القانون وقفزاً عليه. بدلاً من إعمال القانون وتجفيف المنابع اللوجستية والفكرية المغذية والداعمة للإرهاب.
اللافت هو قبول كل الأطراف فى كل مرة يقفز فيها سؤال "لماذا"، بما فيهم الأقباط والكنيسة، لهذه السياسات والتعامل مع الأقباط باعتبارهم آخر، فهم دائماً "الإخوة الأقباط"!!، والتبرير ـ فى كل مرة منذ يوليو 52 ـ بأن المرحلة دقيقة واستثنائية والخطر قائم، والتعويل دائماً على وطنية الأقباط، فى اغفال لما طرأ على الأجيال الجديدة من متغيرات فى تشكيل ذهنيتهم بفعل الثورة الرقمية وفضاءات التواصل التى خرجت بالمعلومات والمعرفة بعيداً عن امكانات التوجيه والحجب والحصار والملاحقة، وهم جيل يرفض أن ينفرد الأمن بادارة الحوار معه، وغالباً ما يخرج من مواجهاته أكثر عناداً وقد تحول بفعل امكانات التواصل الإلكترونى إلى ايقونات.
مصر الدولة والوطن تملك فى هذه اللحظة كل معطيات وعوامل الخروج من نفق طال، وهى تقتحم دوائر التنمية بجسارة وقوة، وتدشن مشروعات اقتصادية عملاقة، على الأرض، وحققت فى ست سنوات طفرة لم تشهدها عبر النصف قرن المنصرم، لعل ابرزها شبكة الطرق المهولة وعشرات المدن الجديدة فى الظهير الصحراوى خاصة فى خط الصعيد، ومدن القناة، ومئات المصانع سواء داخل المناطق الحرة أو خارجها، والذى انعكست نتائجه على انخفاض معدلات التضخم، وعلى زيادة الاحتياطى من النقد الأجنبى، فى سباق محموم مع الزمن، وفى تحد لكل معاول الهدم، وقد استردت مصر ريادتها الأفريقية والإقليمية، بجسارة واستحقاق وقوة.
وأظنها، ظن يرقى إلى الإعتقاد، ستخطو خطوات كبيرة للأمام حال اعادة صياغة وتصحيح وضع الأقباط فى منظومة الدولة والوطن تأسيساً على ارضية المواطنة وتكريس الدولة المدنية.