محمد حسين يونس
الحفاظ علي القيم العليا ليست رفاهية للمترفين .. بقدر ما هي ضرورة للمتعسرين ... بإستطاعة الشاب أن يرقص أمام كل زفة و يطبل في المولد .. و قد يناله جزء من صحن الفته الميرى .. و لكن يظل غريبا .. بين أبناء الحكام ..مهما علا شأنه .

في شبابنا كان التعليم هو البوابة الملكية للإنتقال الطبقي .. فكنا نحرص علي التفوق ..

و في زمن تال أصبح السلوك الإنتهازى و الرقص علي الحبال .. هو الوسيلة الناجحة .. فتقلصت قيمة التعليم ..

وفي زمن يليه أصبحت الدروشة و التجارة في الدين .. هي الباسورد لفتح مغارة علي بابا ..

و اليوم .. سدت جميع المنافذ فالحكام يريدون أن يعلموا عددا محدودا .. من أبنائهم تعليما متفوقا يديرون بهم الضيعة .. و يحولون الباقي لجيش من العاطلين يمثلون إحتياطي عمل تضرب به العمالة و يخفض سعرها و إمتيازاتها .

دعنا نأمل أن يأتي يوم الخلاص ويعي المجتمع .. و يمتلك آليات التعرف و التصعيد للمتفوقين .. ليقودوا الركب ..فجهز نفسك لخوض الصراع .

بدأ المحاضر الأمريكي كلمته .. بأن 60% من قوة العمل في بلده يتم توظيفها في مجال المعلومات ( إينفورمايشن ) ..

تخيلت أنني سمعت الرقم بصورة غير صحيحة .. فسالته ..60% .. (أومال) مين اللي بيزرع حقول القمح الأكبر في العالم .... ومين اللي بيصنع و يطور أسلحة الترسانة الأمريكية .. وبيربي قطعان المواشي و بيستخرج البترول .. وبيحارب في كل بقاع الأرض .. مين بيحرك أساطيل التجارة و السياحة .

قاطعني مبتسما .. فهذا الإعتراض بالضبط هو ما كان يحاول أن يقودنا إلية ..ليشرح آليات العمل في بلده .. بعيدا عن تصوراتنا لإسلوب توظيف الجهد البشرى التي قد تعود في أحسن أحوالها إلي القرن التاسع عشر .

أعداد قليلة جدا قد لا تزيد عن أصابع الكف الواحد تستطيع أن تزرع و تروى و تعتني بمحصول الاف الأفدنة بواسطة أدوات التكنولوجيا الحديثة و شبكات الاقمار الصناعية و الكومبيوترات والأبحاث الجينية التي ترفع الإنتاج إلي معدلات غير مسبوقة ..

من يعمل بالزراعة لا يزيد عن 1% من قوة العمل الأمريكية ينتجون ما يكفيهم من محاصيل .. و يجعلهم هذا في وضع تنافسي كاسح للأسواق العالمية .
المصانع اليوم .. لم تعد تحتاج إلي قوى عاملة .. بعد إنتشار (الأتوميشن) .. إن مصنع ضخم لإنتاج السيارات يعمل ليل نهار .. دون الحاجة إلا لعدد محدود .. من المراقبين لشاشات الكومبيوترات الخاضعة لنظام (إسكادا ) شديد الدقة .

مراكز البحوث وإتخاذ القرار تعمل بواسطة أدوات الذكاء الإصطناعي المتفوقة .. تخرج بعدد قليل من الباحثين .. نتائج مذهلة .

ثم إنتهي إلي أنه في عالم نهاية القرن العشرين أصبح الذى يمتلك المعلومة الصحيحة المدققة في الوقت المناسب هو القادر علي السيطرة علي العالم ..

و لذلك فمراكز المعلومات الأمريكية لا تنام ليل أو نهار إنها مربوطة بشبكات مركبة حول العالم .. تستخدم فيها مشغلين من الهند و اليابان و أوروبا و الشرق الأوسط يقومون بنفس الوظيفة و الدور بنفس المستوى الفني الذى يقوم به نظرائهم في أمريكا دون الإحتياج للعمل 24 ساعة في اليوم لأى منهم .

خلال النصف الثاني من القرن العشرين .. تغير العالم ..لم يعد ينتج بنفس الأساليب التي إستخدمها أبناء القرون السابقة .. فالتوجيه عن بعد و إستخدام الأقمار الصناعية .. و تطور التكنولوجيا .. قسم سكان الكوكب إلي ثلاثة أقسام يتوزع بينهم حجم العمل الكوني طبقا لقدرات كل مجتمع و نوع العمالة المتاحة .

شعوب القمة توفر في إستخدام الأيدى العاملة الكثيفة ..و تستبدلها بالكمبيوترات .. حوض نهر الراين الذى كان مصنع العالم لإنتاج الحديد و الصلب .. تم تفريغة من المصانع ذات المداخن الملوثة للبيئة .. و ترحيلها إلي بلاد الكثافة السكانية في الهند و الصين و إفريقيا ..حيث العمالة متوفرة بأسعار زهيدة ولا يهم إن كانت ماهرة من عدمة ، بجوار الصناعات الكيماوية للسماد و المبيدات .. أو الألمونيوم .

صناعات السيارات و الماكينات الضخمة ..والإلكترونية و ما يشبهها تم ترحيلها لجنوب شرق اسيا أو دول أمريكا اللاتينية حيث العمالة الرخيصة المدربة.
أما المنتجات الزراعية و المواد الخام و البن و السكر .. ففي البلاد التي يمكن التحكم فيها بواسطة الشركات المالتي ناشونال العملاقة .

بلدنا كان نصيبها .. أن تكون الممر للناقلات الضخمة عبر قناة السويس .. و مكان للسياحة الترفيهية علي شواطيء البحر الأحمر و سيناء .. و مكان لإقامة المصانع الملوثة للبيئة (حديد و المونيوم و سماد و مبيدات ).. و مصدر لعمالة رخيصة للدول النفطية المجاورة .. و إحتياطي إستراتيجي للغاز و البترول .. ثم سوق واسع يستقبل منتجات مثل القمح و السلاح و وسائل الإتصال .. تعتمد في حياتها.. علي ألإستيراد .. و تعيش توازن عجز ميزانها التجارى .. بالقروض (الديون) و المعونات ... محافظة علي أدني مستوى في التعليم مضاف له تغييب دينى واسع و إستهلاك للمخدرات و لأفلام البورنو .

فإذا ما كان العالم قد تغير هكذا .. و أصبح مالكي المعلومة يحركوننا طبقا لمصالحهم .. و فقدت أساليبنا البدائية في العمل قدرتها علي المحافظة علي وجودنا كما جرى لعشرات القرون بحيث نأكل من كدنا ..

فاليوم لم يعد أمامنا للخروج من هذا (القدر ) إلا إمتلاك لغته .. و التعلم من إسلوبه .. و المنافسة في إمتلاك المعلومة .. و تطوير معرفتنا .. ومبارحة البحيرة الأسنة التي علقنا بها منذ هزيمة 67 ..

علي الشباب ..الواعي إمتلاك اللغة المعاصرة للحياة ..و التدرب عليها .. إما بالسفر للخارج أو بإستخدام وسائل الإتصال الحديثة .. أو الإلتحاق بكورسات متخصصة

و الشاب الذى لا يمتلك بعد مقوماتها أن ينتج بواسطة مشاريع صغيرة .. ما يكفية عن مد اليد و الإستيراد ..

المزارع المحدودة ، الورش التي تعمل بتكنولوجيا وسيطة ، الصناعات التي يمكن أن يقبلها السوق العالمي من المنتجات المحلية كتعليب السمك و تدجين الطيور وتربية الضفادع و النعام .. والتماسيح و زراعة الزهور .. و الأعشاب الطبية ..و المنسوجات اليدوية .. و الضيافة المرحبة بالسياح .

علي الشباب أن يعبر الأسور التي حجزنا خلفها .. من حكمونا .. و يرتبط بالسوق العالمي .. خطوة خطوة .. حتي يجد له مكانا و لو محدودا .. هكذا فعلت دول جنوب شرق أسيا و الصين .. و توقفوا عن مضغ الأفيون .

هذا التوجه نحو تحديث أساليب الإنتاج .. يحتاج لثورة ثقافية .. سيقوم بها .. من سيستفيدون من التغيير .. لا تنتظروا هذا من أبناء ( النفو ريش ) ..أو البيروقراطيين ذوى الكروش الضخمة و العقول المسحوقة

و لكنه سيأتي كنتاج تفعيل الطاقة الكامنة داخل أبناء المهمشين الذين يكونون جيش البطالة.. الجالس علي القهاوى .

المجتمع المرجو يحتاج .. لتعليم جديد .. و تدريب مخالف .. لقد أصبح المهندس وخريجي التجارة و الأداب و الحقوق و الإقتصاد.. و غيرهم من التخصصات التي تعاني من البطالة عبء علي عملية التطور .. فغيروا مهنكم .. وإسلوب إختيار تخصصاتكم .. لمهن و مهارات .. مفتقدة .

بالامس فهمنا من الرسميين أن الدين الخارجي تجاوز المائة مليار دولار بعشرة مليارات ..و أن الأمر سيستمر .. و يزيد لتمويل مشروعات متناثرة .. لا تتبع خطة تنمية واضحة و ليس لها عائدا إقتصاديا يسدد القروض .. هذا المسار لا يبدو واضحا لمسن يفتقد المعلومات .. و لكنه في حدود المتاح فإن علي الشباب ألا يتصور أنه سيجد في نهاية الدرب الإسقرار و الطمانينة .. علية أن يعرف أن أمنه و إستمراره و قدرته علي النجاة .. تكمن في مدى تنمية إمكانياته الذاتية و إمتلاك لغة العصر

أقول قولي هذا .. و أنهي حديثا بدأته ..لم أكن فيه مفيدا .. فهذا الأمر لا يتصدى له فرد محدود الرؤية مثلي .. ولكنني أرجو أن أكون قد القيت حجرا في البحيرة الأسنه .. وبدأت حوارا .. تتبناه مؤسسات المجتمع المدني (التي يتكلمون عنها و لا نرى تأثيرها ) .. و الأحزاب ( التي تعدت المائة و لم تستطع أن تقدم برنامجا واحدا للخروج من الأزمة ) .. ومجاميع الدراسة و البحوث بالجامعات و المراكز المتخصصة ( المشغولة بالهم اليومي لزيادة مكاسب أعضاءها ) ... لتخرج بمخطط تفصيلي ..و خريطة طريق للنجاة .. من حصار صندوق الدين و من يفرض و ينفذ تعليماته من بيروقراطي الحكومة .