بقلم الباحث/ نجاح بولس
أثار قرار مطرانية لوس أنجيلوس وجنوب كاليفورنيا بتنفيذ مقترح المجمع المقدس بفكرة العيدين (٢٥ ديسمبر - ٧ يناير) حالة من الجدل الشديد وصلت لمرحلة الإستقطاب داخل المجتمع القبطي ، ما بين مرحب بإنفتاح الكنيسة مع الثقافات الأخرى ومحاولة إستيعاب الأجيال الجديدة بالمهجر ، وبين رافض لسياسات تعمل على إنقسام الكنيسة وخلخلة المجتمع القبطي وتهديد تماسكه .
ولمناقشة الأمر وجب أولاً ضبط المفاهيم ورفع القداسة عن توقيت إحتفالات عيد الميلاد بإعتبارها مجرد فعاليات مجتمعية بغض النظر عن قداسة الحدث نفسه ، وبالتالي فك الإرتباط بينها وبين العقيدة المسيحية من جهة وإيمان الكنيسة من جهة أخرى .
لا يجهل أحد أن توقيت الإحتفال بعيد الميلاد لا يشير إلى يوم ميلاد السيد المسيح بالتحديد ، ولكنه تحدد فلكياً يوم الإنقلاب الشمسي المنقسم لأطول ليلة وأقصر نهار في السنة ليبدأ بعدها النهار في الزيادة والليل في النقصان ، في إشارة رمزية لميلاد النور مع ميلاد السيد المسيح .
وكان يتم الإحتفال بعيد الميلاد في مصر وكل العالم يوم ٢٥ ديسمبر الموافق ٢٩ كيهك في التقويم القبطي لتوافر الشروط الفلكية في هذا اليوم ، إلى أن تم إجراء تعديل على التقويم اليولياني عام ١٥٨٢م في عهد البابا جريجوري بابا روما ، بحذف عشرة أيام منه لوجود فروق بين ٢٥ ديسمبر ويوم الإنقلاب الشمسي ، بسبب وجود ١١ دقيقة غير محسوبة كل عام ، ليعود يوم ٢٥ ديسمبر في موقعه الفلكي كأطول ليل وأقصر نهار وسمي التقويم الجديد بالتقويم الجريجوري .
ولم يتم إجراء هذا التعديل في مصر على التقويم الميلادي (اليولياني) سوى في أوائل القرن العشرين ، دون إجراء نفس التعديل على التقويم القبطي ليصبح بعدها يوم ٢٩ كيهك وهو يوم الاحتفال بعيد الميلاد في التقويم القبطي غير المعدل ، موافق ليوم ٧ يناير في التقويم الميلادي الجديد (الجريجوري) ، علماً بان بعض الكنائس الأرثوذكسية الشرقية الأخرى لا زالت تتبع التقويم اليولياني والذي يوافق فيه عيد الميلاد يوم ٧ يناير في التقويم الجريجوري ، مثل الكنيسة الروسية والصربية وبعض الكنائس الشرقية الأخرى .
وقد سبق وطالبنا مع كثير من الباحثين والكتاب ملتمسين من كنائسنا الشرقية إعادة النظر في التقويم الداخلي لكل منها حتى يتلائم فلكياً مع التقويم الجريجوري من جهة وإعادة توحيد عيد الميلاد لكل شعوب العالم من جهة أخرى ، في مقابل السعي لتوحيد الإحتفال بعيد القيامة أيضاً بحساب الأبقطي الذي يتلائم مع حساب توقيت عيد الفصح لدى التقويم العبري .
أما عن قرار مطرانية لوس أنجيلوس وما أثاره من جدل فكل طرف له أسانيده التي تدعم موقفه ، والتقييم المنصف يستدعي الرجوع إلى الكنيسة لإعادة تأكيد هويتها من جهة ، وللمكون القبطي في الداخل والخارج لإستبيان إنتماءاته الثقافية من جهة أخرى .
وهناك خياران أساسيان يتعلقان بتصنيف هوية الكنيسة القبطية فيما إذا كانت كنيسة مسكونية تقبل المسيحيين من كل العالم ؟؟ ، أم إنها كنيسة ذات طبيعة وطنية أو عرقية للأقباط فقط ، وعلى كل من يتبع أيمانها حول العالم أن يقبل الإنضمام للمجتمع القبطي كمجموعة عرقية لها هويتها الخاصة ويتخلى عن هويته الأصلية ؟؟ وعلى قياداتها الإعلان عن خياراتها صراحاً والتأكيد عليها .
فإذا كانت الكنيسة ذات طبيعة مسكونية تسعى للتبشير والكرازة حول العالم ، فإن المعيار الرئيسي الذي يربط أعضائها حول العالم هو العقيدة وإيمان الكنيسة ، دون الشرط بتوحيد المشاركات والإحتفالات الدينية أو حتى الطقوس الكنسية ، فالكنيسة المسكونية لها رئاسة كنسية موحدة وإيمان واحد ، بينما تختلف الممارسات والطقوس حسب طبيعة المجتمعات التي ينصهر فيها أعضاء الكنيسة ، والتي قد يكون من ضمنها مواعيد الأصوام وتوقيت الإحتفالات بالأعياد ، إلى أن يتم توحيدها مع الكنائس الأخرى كما أشارنا سابقاً .
مما يعكس بالطبع إيجابية قرار مطرانية لوس أنجيلوس وقراءته السليمة للبيئة المحيطة في ضوء رؤية الكنيسة الأم وسعيها لتمدد كرازتها ، وقد تكون الكنيسة الكاثوليكية من أبرز الأمثلة للكنائس المسكونية ، فرغم ترابط فروعها وكراسيها في مختلف دول العالم حول إيمان واحد وتحت رئاسة واحدة بالفاتيكان ، إلا أن طقوس الصلاة والصوم تختلف حسب إختلاف المجتمعات .
أما إذا إكتفت الكنيسة بطبيعتها الوطنية وحصرت أتباعها داخل بوتقة الهوية القبطية كوعاء جامع للثقافة روحياً وإجتماعياً ، فهنا لا يتسق قرار المطرانية بفكرة العيدين مع خيار الكنيسة الأم المتعلق بهويتها وتناسق مكوناتها ، فالمقترح سيؤدي لإنقسام المجتمع القبطي إجتماعياً ويكرس تدريجياً لإنفصال الأجيال الجديدة بالمهجر عن الواقع القبطي بالداخل وبالتالي تلاشي إرتباطهم بوطنهم الأم .
كما سيعمل على خلخلة البناء الإجتماعي للأسرة القبطية ، فمعظم الأسر القبطية لديها أبناء بدول المهجر المختلفة ، وإختلاف مواعيد الأعياد بينهم سيقضي على إحدى العوامل الهامة الدافعة نحو التواصل الأسري بين أعضاء الأسرة في الداخل والخارج .
وفي كل الأحوال أرى أن مقترح العيدين (٢٥ ديسمبر - ٧ يناير) ليس حلاً مناسباً ، ويخل بالفكرة العامة لمبادرة توحيد الأعياد التي تقوم فلسفتها على الحد من الفروق المذهبية بين مسيحيي العالم ، بينما المقترح يكرس لمزيد من الفروق والإنقسامات داخل الجماعة الواحدة ، والأفضل البحث عن آلية لتوحيد الأعياد بين الكنائس الشرقية والغربية وبالتالي بين شعوبها في الداخل والخارج شرقاً وغرباً .