أمضيت أياماً فى الرياض، العاصمة السعودية. كنت ضيفاً على منتدى الإعلام العربى الذى احتل يومين مكثفى النشاط وأنا لى سابق تجربة فى السعودية، فقد كنت أزورها كل حفل جنادرية وهو من ثوابت الاحتفالات فى السعودية، وذات مرة قلت للأمير بدر بن عبدالعزيز: الأجانب المدعوون فى المهرجان يسألون عن المرأة السعودية شريكة الرجل، أين هى؟ قال الأمير بدر وكان مشرفاً على الحرس الوطنى السعودى، منظم المهرجان: هذه عاداتنا و«عوايدنا». وذات مهرجان، لقيت نفسى فى مواجهة الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذى سألنى عن «الموضوعات» التى تناقش فى المهرجان، تجرأت يومئذ وقلت: تنقصها المعاصرة، وتلقيت بعض اللوم على قولى، فقد قال سمو الأمير فيصل بن فهد: «السياق الزمنى للمملكة يحدد خطاويها»، وقد أعجبنى التفسير. ومرة أخرى كتبت أقول إن الرياض تبدو لى «تليفزيون أبيض واسود» وجده تبدو لى «تليفزيون ملون» ولكن شيخ المؤرخين السعودى عبدالعزيز التويجرى قال لى: «خانك التشبيه» وأضاف: كل المدن السعودية واحدة. وفهمت ما يعنيه التويجرى الذى كان يروى لنا- يوسف إدريس ومحمود السعدنى- صفحات من التاريخ السعودى. وقلت مرة لإحدى الأميرات السعوديات: إنك باهرة بأفكارك وعملك المتطلع، فلماذا تهميش المرأة السعودية؟ قالت فى إيجاز: «تقاليدنا».
وكنت قد عرفت أمير الرياض حينئذ سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز وحضرت له لقاءً سياسياً فى القاهرة وكنت مدعواً للمناسبة التى كانت تضم جميع التيارات والرؤى، وقابلته فى مكتبه بإمارة الرياض بعد زوبعة أحدثها مقالى فى العالم اليوم «تربية دادات» وكنت أناقش تأثير الدادات الأجنبيات على الأطفال وخطورة هذه التربية فى غياب رقابة البيت السعودى. وكتب الصحفى السعودى مقالاً بعنوان «امنعوه من دخول بلادنا» وظهرت على شاشة أوربت مع الصديق عماد الدين أديب. الذى تلقى رسالة بدعوتى للمملكة فى نفس الأسبوع وكان قد صدر علىّ الحكم بكذا جلدة وسافرت وقابلت أمير الرياض سلمان بن عبدالعزيز الذى قال لى «أنت فى بيتك، وأفكارك ومقترحاتك محل مناقشة». كان اللقاء طيباً إلى أبعد الحدود وقد رويت القصة كاملة عندما صار أمير الرياض ملكاً للسعودية فى «المصرى اليوم» وأقفز فوق السنين عندما برز اسم محمد بن سلمان ولعله كان يبشر بسعودية متطورة «حافظت على الثوابت ولكنها تتخلص من بعض العوائق» وبدأت قيادة السيدات للسيارات وكان هذا حدثاً بل زلزالاً. وبدأت المرأة تسافر وحدها ولم تكن تحصل على هذا الحق من قبل.
وفى جدة، وقفت الإعلامية النابهة الحاصلة على الدكتوراه فى التواصل. وقفت وهى ابنة السعودية تقدم حفلاً فى جدة وتقرأ على الهواء كوبليه من من أغنية هانى شاكر العاطفية مما أسعد جمهور الحفل، ولكن اختيار د. هبة جمال كان إشارة عميقة بأن ثمة تغييراً فى الأفق. فلم تكن هناك حفلات بقصد الترفيه من قبل، أما هذه الحفلات فقد كانت جديدة على المجتمع السعودى الذى كان يرقب التغيير الذى كان حصاده السعادة والطبيعية التى عاد لها المجتمع مثل سائر المجتمعات. كان المجتمع السعودى يتطور ولا أقول يتغير، فقد كان الزمن كفيلاً بهذا التطوير.
فى المنتدى الإعلامى، مثلاً، نوقشت موضوعات ما كانت تطرح من قبل، ومعنى هذا أن التطور طال المضمون وليس الشكل بدليل مناقشة حول دور «التوك شو فى المجتمع»، وكان فارسا الحوار من مصر وائل الإبراشى ومعتز الدمرداش، ونوقشت قضية هل التوك شو ينقل ثوابت الدول أم هو تصويب وتنوير للمجتمع. وما كان هذا مجالاً للمناقشة فى الماضى. نوقش أيضاً هل تموت الصحافة الورقية بطغيان التليفزيون الرقمى؟ موضوعات حديثة وعصرية ومباشرة لا تحفُّظ فيها ولا خطوط حمراء.
ما كان هذا يحدث من قبل واسألونى. ثم حضرت حفلاً فى المساء ظهر فيه الأطفال يغنون ولكن المفاجأة فى ظهور شابة سعودية سوسن البهيتى كأول صوت أوبرالى فى المملكة غنت سوسن وقال لها والدها «الجمهور السعودى متحفظ جداً من ظهور امرأة سعودية فى مجال الفن»، ولكن جمهور حفل المنتدى صفق طويلاً لسوسن التى كان ظهورها بمثابة حادث غريب فى الرياض! إن المؤرخ السعودى الذى يعيش الآن هذا التطور سيتوقف كثيراً عند وقائع التغيير. فالمؤرخون السعوديون يغلب عليهم الطريقة التقليدية وسرد السنين والوقائع والحوادث وخصوصاً المؤرخين النجديين، أما مؤرخ هذا الزمان الذى يعيش أنماطاً من التطوير فهى سمة سعودية بن سلمان الذى يقود هذا الأسلوب بقدم ثابتة ورجاحة عقل ودون القفز على مراحل تجلب الخلل. إن بن سلمان فى وجود عاهل السعودية الأب سلمان بن عبدالعزيز يدعو لطبيعية المجتمع من خلال قرارات هادئة نجد راحة عند المواطن السعودى. بعض المحافظين فى المملكة يرون ما يجرى من تطوير هو «زلزال» بكل المقاييس وبعضهم يقابل التطوير بريبة وحذر، والجيل الجديد يواجه هذه التغييرات بالرغبة فى تطوير أكثر. سعودية بن سلمان هى عنوان للمرحلة التى يعيشها السعوديون، والتطوير بهدوء فى الأشخاص وأنماط الحياة.
■ ■ ■
فى الشأن العام
سبحانك ربى
يموت أنقياء القلب الحالمون، ويبقى الشتامون والسوقيون بأجر يسعون فى الأرض!
يموت المبدعون الحقيقيون، ويبقى منزوعو الدسم الذهنى والموهبة!
يموت الحساسون بنوبة قلبية، ويبقى غلاظ القلب بنوبة قبح فى الحياة!
يموت هؤلاء العظام الذين يضيفون للمجتمع، ويبقى هؤلاء الذين سقطوا من الذاكرة!
يموت الذين يقودون المجتمع نحو شارع الوعى، ويبقى الزبالون بلا رخصة من البلدية!
يموت المبشرون بالجمال من خلال عزف على قيثارة الفن، ويبقى دعاة الحقد مروجو القبح والسموم!
يموت الجميل الراقى الوديع سمير سيف ذات دقيقة لم تكتمل، ويبقى عشرات بل مئات تدق قلوبهم بلا طائل!
يموت المخرج الكبير سمير بسيْف اللحظة، ويبقى من هم خارج إطار الزمن! وهكذا المشهد الأخير ليل داخلى: إظلام تام!
نقلا عن المصرى اليوم