عاطف بشاي
منذ عدة سنوات قرأت خبرًا عن قيام لص بقطع التيار الكهربائى عن حى بأكمله.. وفك أجزاء محطة كهرباء ووضعها فوق ونش مسروق واختفى.. وقد تم ذلك على مرأى ومسمع من سكان الحى.. الذين يروحون ويجيئون أمامه متصورين أنه من عمال هيئة الكهرباء جاء ليصلح انقطاع التيار الكهربائى.
سيطر علىّ الحزن عندما قرأت هذا الخبر.. فقد أدركت أن الكوميديا فى خطر.. والساخرين من كتاب السيناريو للسينما والتليفزيون ورسامى الكاريكاتير فى أزمة لأن هذا الحادث دليل قوى ودامغ على أن مفارقات الواقع المعاش أصبحت أعلى وأكثر عبثية وغرابة من خيال المبدعين من صناع السخرية فى بلادنا.
وبناءً عليه فكرت أن أعلن اعتزالى الكتابة الكوميدية حتى أحفظ ماء وجهى وأصون كرامتى خوفًا من ردود أفعال المتلقين والنقاد لأعمالى ووصمى بسخافة وثقل ظل ما أكتبه من سيناريوهات أفلام أو مسلسلات لا تضحك أحدًا.
تذكرت واقعة السرقة تلك بعد رؤيتى لكاريكاتير للمبدع «عمرو سليم» فى جريدتنا الغراء (المصرى اليوم) تمثل مواطنًا على وجهه ملامح السخط والغضب وهو يطالع خبرًا فى جريدة عن سرقة (27) برج كهرباء ضغط عال بينما صديق له يطيب خاطره مهونًا الأمر ومرددًا فى سخرية: ما تزعلش نفسك وبص للجانب الإيجابى اللى فى الموضوع، إن اللى سرق الـ(27) برج كهرباء ما سرقش معاهم برج القاهرة كمان.
ولأن عمرو سليم أدرك بفطنته وذكاء قريحته ذلك المأزق بين الواقع كما نعيشه الآن وبين الواقع (الافتراضى) الذى يفرضه فن الكاريكاتير فى التعبير عن الموقف الكوميدى الساخر.. فقد اجتهد أن تكون المفارقة صارخة فى النكتة التى يعلق فيها على سلوك السارق والوصول بالمبالغة إلى ما يجعلها تفوق الواقع عبثية وغرائبية.. فكان التعليق تحديًا للواقع المعاش ومحاولة للقفز عليه بادعاء أنه أصبح شيئًا مألوفًا.. إنما يكمن الخطر فيما هو أكثر عبثًا من ذلك وهو سرقة برج القاهرة كمان.
والحقيقة أن سخرية الفنان هنا ليست كما يتبادر إلى ذهن البعض هروبًا من المأزق والمحنة التى تتمثل فى غض البصر عن سرقة أو فساد أو انحراف أخلاقى، أو متنفسًا للمتلقى لتهوين الأمر حتى يخفف عنه فداحة مثالب مجتمعنا.. أو رغبة منه فى أن يدعونا إلى التكيف مع واقع ردىء والخنوع لكل ما هو سلبى فيه.. بل على العكس من ذلك تمامًا- كما يتضح من تاريخه الرائع فى فن الكاريكاتير- حيث يسلط قدراته الإبداعية على مصادر العيوب وعورات المجتمع بسلوك البشر الذميمة ويخلع عنها أقنعة وأردية المثالية والفضيلة والشرف ويستبيح كشف أسرارها ليخلق الفكاهة بإخضاعها والنيل منها والضحك عليها والسخرية منها.. والسخرية كما نعلم هى أرقى أنواع الفكاهة لما تحتاج إليه من ذكاء ساخر وقدرته على المواربة والمكر واللماحية والتورية والتهكم والتقريع والنقد والهجاء والتلميح والدعابة.. وذلك بهدف التعريض لشخص ما أو رمز أو مبدأ أو فكرة أو قضية أو مشكلة أو حدث بإلقاء الضوء عليه وعلى الثغرات والسلبيات وأوجه القصور.. إنه يغمس ريشته فى قلب أوجاع وتناقضات المجتمع ويدعوك أن تشاركه السخرية والضحك والتأمل والتفكير فى مستقبل الأيام.
وإذا كان فى نكتته (موضوع هذا المقال) قدم للنموذج الشائع والمضل لديه وهو رجل الشارع البسيط الذى يعانى دائمًا من رقة الحال وضيق ذات اليد وارتفاع الأسعار والفوارق الطبقية والإحساس الطاغى بالظلم الاجتماعى والقهر الإنسانى.. وهو النموذج الذى برع فى تقديمه أيضًا العظيم «حجازى» فإن عمرو سليم قدم أيضًا النموذج الآخر (صاحب التعليق) ويمثل (المثقف الحنجورى) ذلك الذى يستخدم المصطلحات المستهلكة فى غير موضعها وأكليشيهات التعبير الجاهزة والصيغ الطنانة مثل (بص للجانب الإيجابى).. والحقيقة أنه ليس فى الأمر جانب إيجابى على الإطلاق.
فلقد تغير المجتمع وانقلب الهرم واختل سلم القيم الأخلاقية والاجتماعية واستفحل التناقض.. وتفشت الازدواجية فى السلوك الإنسانى وتعاظمت المفارقة فأصبحت النماذج البشرية ذات التركيبات الاجتماعية التى انقضى عهدها لا ينفعل بها المتلقون للكاريكاتير ولا المشاهدون لكوميديا السينما والمسرح.. فالواقع مثلًا لا يفرز الآن الطبيب (ملاك الرحمة ورسول الإنسانية).. وأصبحت أطروفة أن طبيبًا نسى فوطة فى بطن مريض لا تمثل مفارقة كوميدية لأن هناك طبيبًا نسى فى بطن مريضة موبايل خاصا به.. ولم ينكشف الأمر إلى بعد ساعات من خروجها من حجرة العمليات حين صدر عن الموبايل ذبذبات اتصال تليفونى.. وطبيبة تدير مستشفى خاصا وضعت كلبها المدلل المريض على سرير للعناية المركزة وعالجته بالمحاليل.. ولم يعد النموذج المعتاد للص الغسيل من سطوح منزل يتسلل إليه عن طريق مواسير.. ويتم ضبطه فى مواقف ضاحكة أو نشال لحوافظ نقود فى الأوتوبيسات.. ولكنه الآن خبير فى الهندسة المدنية.. بارع فى فك القاعدة الخرسانية المثبت عليها حديد الأبراج.. وخبير أيضًا فى كيفية فك الجمالون الحديدى بسرعة البرق بالإضافة إلى كونه أستاذا فى الهندسة الكهربائية بارعا فى فصل التيار الكهربائى عن البرج حتى يتمكن من فكه.. ويستطيع أن يقوم بمهارة عالية لمهندس كهربائى متخصص فى تيارات الضغط العالى لكى يستطيع أداء تلك المهمة الدقيقة بكفاءة عالية.
ذلك هو بطل حادثة السرقة التى كانت موضوع نكتة «عمرو سليم».
نقلا عن المصرى اليوم