نورا ناجي
كانت سوزان سونتاج (1933-2004) تحلم بالاختفاء، أن تصبح غير مرئية، أو أن تتخلى روحها عن جسمها، تتحول إلى طاقة صافية، عقل فقط. لم ترتح أبدًا للتعامل مع جسدها، تندهش من كل مرة تلاحظ فيها تغييرًا جسديًا، دورتها الشهرية، أو آلام الولادة، الجسد بالنسبة إليها كان مجرد وعاء لا حاجة بها إليه، لهذا كانت تنسى الاستحمام وتغيير الملابس، لدرجة أنها مرنت نفسها على تذكر الاستحمام اليومي، وكانت تسجله كإنجاز في يومياتها.
الغريب أنها قاومت حتى فكرة النوم، تكتب طوال الليل وكأنها تمرن نفسها على التحرر من متطلباته، وعندما أصيبت بالسرطان، لم يكن المرض نفسه هو ما صدمها، بقدر إعلان جسدها أنه موجود، وأنه مريض، وأنها ليست قادرة على التحكم فيه كما كانت تعتقد.
لماذا تعاني الكاتبات من الوحدة؟
طوال كتابتي لهذه السلسلة من المقالات، كنت أحاول الرد على السؤال الدائم: لماذا تعاني الكاتبات بالذات من وحدة شديدة؟ لماذا تحوي كتاباتهن هذا الإحساس بالهشاشة والعزلة؟ أجلس مع صديقاتي الكاتبات فأشعر بوحدتهن، أتابع منشوراتهن على فيسبوك فأجدها في معظمها تتمحور حول الفكرة، لماذا ترتبط كتابة المرأة بشعور مجازي كهذا في العموم؟ كل كاتبة تملك عائلة وأصدقاء وعمل ومشغوليات، لكنها لا تتوقف عن الإحساس بوحدتها الدائمة، أو غرابتها في المجتمع.
أثناء بحثي في حياة سوزان سونتاج، وقراءتي لمذكراتها ومقالاتها المختلفة، أصابتني حالة من التجمد، عجزت عن الكتابة أو البدء بنقطة محددة كما أفعل عادة، كان هناك شيء غامض ومحيّر في تفاصيل حياتها، في حديث المقربين لها، حتى في المقدمة التي كتبها ابنها ديفيد عنها في بداية المذكرات.
المذكرات نفسها كانت مليئة بتفاصيل تشي بضعفها الشديد فترة شبابها المبكر، خضوعها لشركاء حياتها وقسوة الطرف الآخر في أيّ علاقة دخلتها، في استسلامها لاضطراب أمها، والحرص على رعايتها رغم قسوتها عليها، في نعت نفسها بالغبية، المنبوذة القبيحة، المكروهة، الوحيدة. لم تكن سوزان سونتاج تحب نفسها، لأنها كانت مدركة لكل شيء يحدث داخلها، مدركة لتناقضاتها وغرابتها، مدركة لقسوتها ولطفها، مدركة لكل تفصيل وكل تصرف، وكانت قادرة على مواجهة نفسها بكل شيء في هذه اليوميات، عرفت أنني أيضًا سأجد فيها إجابة على سؤالي.
تناقضات سوزان سونتاج
بعد دخولها دائرة الأضواء، كانت سونتاج تصدر صورة مختلفة عن نفسها، صورة السيدة القوية اللا مبالية، إنها امرأة لا تهتم بالمظاهر، نراها بلا مكياج ولا ملابس لافتة، تثق بذكائها وتتحدث مع من حولها بفظاظة وكأنهم أقل منها عقليًا، امرأة مشكوك في أنوثتها، أمومتها، مشاعرها، وكأنها لا ترى أحدًا سوى نفسها. حتى أن أصدقاءها كانوا يتحاشون الجلوس معها ومع شريكة حياتها المصوِّرة آني ليبوفيتز على العشاء، بسبب معاملة سوزان السيئة جدًا لها، ووصفها لها طوال الوقت بالغباء.
ومقابل هذا، كانت سوزان واحدة من أذكى الأشخاص في القرن العشرين، غيرت شكل الثقافة الأمريكية بإسهاماتها وكتاباتها في كل المواضيع المتعلقة بالفن والحياة، كانت ناشطة في التنديد بالحروب والعنف في العالم، سافرت إلى عدة مناطق مشتعلة مثل سراييفو وفيتنام وفلسطين، ونددت بالصور الملتقطة في سجن أبو غريب واصفة إياها بأنها بداية انهيار الحضارات.
كيف يمكن أن تجمع امرأة بين الوجهين الإنساني والفظ؟ كنت أعتقد أن الحياة القاسية في الأوساط الثقافية الأمريكية، تحتم على مشاهيرها التعامل بهذا الشكل، إحاطة أنفسهم بحاجز زجاجي بارد، يمكّنهم من الحفاظ على هيبتهم أو الصورة المتوقعة عنهم، كأشخاص مثقفين ومهمين، لكن هذه لم تكن كل الحقيقة.
مذكرات الهشاشة والاعترافات الصادمة
يوميات سوزان سونتاج غير متصلة ولا مترابطة، إنها لمحات من حياة متشظّية ومبعثرة، لكنها في ذات الوقت، تحمل حسًا فريدًا بالحياة والعالم، في هذه المذكرات تكتب سوزان قوائم بالكتب التي تريد قراءتها، والأفلام التي تريد مشاهدتها، وربما أفكارًا لقصص ستكتبها. وبين كل هذا، تسرد تفاصيل كبرى عن حياتها، تكتب لمحات عن أفكارها من عام 1947.
لم تكن سوزان تتعرض للعنف أو الضرب من أمها مدمنة الكحول، لكنها كانت تتعرض للجفاف المشاعري، كانت أمها ذاتية لا تنظر إلى نفسها، ربما لم تنظر إلى ابنتها أبدًا، لم تدرك حتى وجودها، كانت الفتاة تجلس بالأيام وحيدة تقرأ، أو تقوم هي بكل واجبات البيت ورعاية نفسها وأمها، كأن الأدوار قد انقلبت، أصبحت الأم هي الابنة والابنة هي الأم.
لم أشعر في أعماقي، أن أمي أحبتني يومًا. كيف يمكنها؟ هي لم ترني فعلاً. صدّقت هي ما كنت أعرضه لها من نفسي (تلك النسخة المكيّفة بعناية). شعرت أنها كانت بحاجة لي، ذلك كل ما في الأمر. وأنا أواجه غياباتها ورحلاتها المتكررة، كنت أشجع ذلك، كنت أسعى إلى خلق “أنا” لها يمكن أن تحتاجها، شخص يمكن أن تعوِّل عليه أكثر وأكثر
خلال وقوفها أمام باب حجرة أمها الموصدة في وجهها، في انتظار أيّ بادرة اهتمام منها، تخلخلت الثقة في روح سوزان، إنه خلل الثقة الذي ظل مصاحبًا لها طوال حياتها، وكانت تعوضه هذه الصورة القوية الفظة التي تصدرها للناس. شعرت سوزان أنها لا تستحق الاهتمام، وأنها مكروهة وغير كاملة. نقمت على شكلها وأفكارها وتصرفاتها، وظلت طوال حياتها في محاولات للتخلص من هذه الطفلة -الواقفة أمام باب الحجرة تنتظر- داخلها، كانت تسعى إلى الكمال؛ الأمر الذي جعلها متشرنقة في عالم بعيد عن الآخرين، ظلت وحيدة رغم وضعها الاجتماعي المميز والتفاف المريدين. نفس المريدين الذين كشفوا عن أسرارها الشخصية والخاصة بعد موتها.
تقول سوزان إن من حولها كانوا يتهمونها بعدم اللباقة، لكنها لم تكن ترى نفسها فظة، أو قادرة على إيذاء الآخرين. تصف سوزان نفسها بأنها إكس (x)، والإكس هو أن تشعر بكونك مقيدًا، مجبرًا من شخص آخر، غير قادر على تحرير نفسك، بل تنتظر من الآخر أن يحررك، الإكس هو الاضطرار إلى أن تكون ما يرغب به الشخص الآخر. الإكس في اعتقادي أنا هو تعبير سوزان عن الوحدة، والجوع العاطفي لآخرين -أيّ آخرين- من حولها.
اضطراب الهوية وفقدان التوازن
الصدمات التي عانت منها سوزان سونتاج كانت كافية بالفعل لإفقاد أيّ شخص توازنه، في الأربعينيات، عندما بدأت سوزان في اكتشاف ميولها المِثلية، لم يكن هذا أمرًا سهلاً، حاولت كثيرًا أن تقاوم هذه الميول، أن تثبت بأنها شخص طبيعي، فتزوجت من عالم الاجتماع فيليب ريف في سن السابعة عشر بعد لقائهما بأسبوع، وأنجبت ابنها ديفيد. لكنها لم تتمكن من العيش، لم تعد قادرة على تقبل حياتها، وشعرت بأن عزلتها تزداد، أنها فقدت القدرة على التواصل مع العالم، فطلبت الطلاق وذهبت للعيش في لندن لمدة عام، بعيدًا عن ابنها.
خشت سوزان أن تتحول إلى نسخة من أمها، فطالبت بعد ذلك بحضانة ديفيد، وتنازلت من أجله عن حقوقها في كتابة كتاب “فرويد: عقل الأخلاق”، لينسبه زوجها إلى نفسه فقط. هذه كانت نقطة تحوّل في حياة سوزان، موافقتها واستسلامها لسلب مجهودها، جعلها تدرك أن عليها البدء في تكوين غلافها الزجاجي، جعلها دائمًا تقف على مسافة من كل شيء وكل شخص تحبه، ربما أكسبها هذا الفظاظة الظاهرية، والقسوة المزيفة.
ربما كانت سوزان أمًّا سيئة بمعايير المجتمع، تصحب طفلها إلى الأمسيات والحفلات الصاخبة وتجمعات المثقفين، وتتركه يغفو على كومة من المعاطف، ربما تركته شهورًا للسفر مع عشيقة جديدة، او انشغلت عنه بأزماتها العاطفية ونوبات اكتئابها، لكنها لم تصدق أبدًا أنها بالفعل أم سيئة، كانت أمًا مختلفة، تبذل جهدًا لتتمكن من التوفيق بين أمومتها واهتماماتها وطموحاتها، صراع ربما يراه البعض تافهًا أو محسومًا، لكن الأمور ليست بهذه السهولة.
أجد نفسي خلال قراءتي للمذكرات أتورط في الحكم عليها أيضًا، أراها امرأة قاسية لا تهتم سوى بنفسها، وفي نفس الوقت، تراودني مشاعر خفية في الاعتراف أمام نفسي أنني أحيانًا ما أفعل أمورًا مشابهة، أصرخ في وجه طفلتي إن أحدثت ضوضاء وأنا أكتب، أطلب منها مغادرة الغرفة والتوقف عن الكلام، أنا أيضًا أتركها وأعمل، وأسافر لإنجاز المهام التي ورائي، أنشغل كثيرًا جدًا، أحيانًا أحلم بغرفة هادئة بعيدة أجلس فيها وحدي، على مكتب نظيف مرتب وليس بين كومة من الألعاب والملابس. أشعر بالذنب من مجرد التفكير، أبحث عنها لأجدها قد غفت دون أن أشعر، أشعر بوجودها وكأنه طيفي، كأنني لم أرها طوال اليوم أو أنني أفتقدها وكأنني تركتها لفترة طويلة. أندم، وأصمم على تغير كل هذا، أن أجلس وأنصت لقصصها وحديثها، أن أترك ما في يدي وأتفرغ لها، وفي اليوم التالي أفشل من جديد.
الإجابة على السؤال
فكرت في أن الحساسية الشديدة تجاه العالم يمكن أن تسبب هذا الشعور بعدم الإشباع، المخ الذي يعمل بشكل دائم، الذي يلاحظ كل حركة، ويستبصر المشاعر الحقيقية للأشخاص من حوله، يمكن أن يتسبب في خلق هذه الحالة من العزلة. روح الكتابة تعمل مثل جهاز “الإكس راي”، تُظهر باطن العالم، وباطن العالم مظلم وقبيح مليء بالهفوات والعثرات والقسوة، فيتولد هذا الشعور بالاحتقار للآخرين، غثيان كما تسميه سوزان عندما تكون بين الناس، كانت تشعر أنها مرائية ومرعوبة، وتتمنى لو أصبحت خرساء تتوقف عن الحديث والابتسام والتواصل والتملق.
لكن في نفس الوقت، كانت سوزان تحرص على الاستمرار في الكتابة، تحرص على كسب ود ورضا الناس، نفس الناس الذين تحتقرهم أو تعتقد أنهم لا يفهمونها. الأمر بالفعل يشبه أفعى تأكل ذيلها، دائرة مغلقة بين الاحتقار والرغبة في كسب الاهتمام، الدائرة الملتفة توّلد في النهاية هذا الإحساس بالعزلة.
كانت سوزان واضحة جدًا قي تناقضاتها، كانت كاشفة، تعجب بنفسها لكنها لا تحب نفسها، تنجذب بدون إرادة إلى كل شيء مشوه وغير مكتمل، يمكنها أن ترى الجمال في القبح، لأنها موقنة أن لا أحد كامل. وصلت سوزان إلى حقيقة الكثير من الأشياء في العالم، وباتت قادرة على كشف العقول والأرواح، هذه الشفافية التي تميّز الكاتبات بدرجات هي ما تعزل المرء في شرنقته الزجاجية، التي يمكن أن نسميها “الوحدة”.
هاجس الموت
كان هاجس الموت يطارد سوزان طوال حياتها، وكانت ترفضه بشكل تام، سعت إلى الإشباع من الحياة بكل طاقتها، مكتبتها كانت تضم 15 ألف كتاب، إلى جانب قوائم بكتب تريد امتلاكها وقراءتها، لم تتمكن من التفاهم مع الموت سوى بعد إصابتها بالسرطان للمرة الأولى، بدا وكأنها أرهقت من الفكرة، أو يمكن أن نقول اعتادت عليها، ارتاحت للألفة مع سبب موتها. لكنها رغم ذلك كافحت وشُفيت منه مرتين، ثم خسرت في المرة الثالثة عام 2004.
طوال حياتي كنت أفكر بالموت. لكني الآن تعبتُ من الفكرة. ليس بسبب أنني صرت أقرب إلى موتي، بل لأن الموت صار في النهاية حقيقيًا
كتبت سوزان في مقارنة بين مرضَي السل والسرطان، أن الأول يبدو شاعريًا، يسبب شفافية الجسم وزيادة العاطفة، يموت به الأبطال في الأفلام والروايات، أما السرطان فلا يزال أقرب لحجر صلد جاف بلا مشاعر، مرض مخيف ومخزٍ ولا يمكن تجميله.
ربما لهذا منحت سوزان موافقتها لشريكة حياتها آني ليبوفيتز على نشر صورها وهي ميتة، قررت أن تهدم الصورة التي حرصت دائمًا على تصديرها لنفسها، كامرأة واثقة مفعمة بالحياة، بصورها الأخيرة الخالية من الحياة، المنتفخة بفعل العلاج الكيميائي، وكأنها تريد أن تقول للعالم الصور خادعة، يمكن أن تبرز قوتك، ثم تظهر -في لحظة- ضعفك.
نقلا عن نون