رلى الكيال
اليوم الصفر : قرار العودة.
قال لي معالجي النفسي : مصر هي المنطقة الآمنة لك .. لم أفهم قصده في البداية حتى قررت العودة لبهية بعد غياب خمس سنين .
فما قصتي مع بهية؟ ولماذا اخترت العودة إليها ؟
بداية دعوني أخبركم عن ذاكرة السوريين بعد الحرب.
تحاول الذاكرة، ومن خلال آلية دفاعية معينة ومشتركة عند أغلب السوريين أن تبقينا أحياء ومستمرين في عيش اللحظة، لذلك تقوم بطمس كل ما يتعلق بسوريا من لحظات خاصة و تاريخ طويل.
وكأن الزمن قد توقف عند الـ 2011 ..
أجلس أحيانا مع نفسي أحاول أن اتذكر بعض الذكريات الجميلة التي تفتح شابيك التنفس، فأجدها تهيم في خراب ودمار وقصف وتشرد وتهجير.!!
أجل.. لقد نسيت نفسي قبل الـ 2011 نسيت هويتي، حتى شكلي نسيته.. !! وإن كانت وظيفة الصور الفوتوغرافية التقاط اللحظة وتجميدها لتغدو ذكريات لاتنسى. فلا صور لدي تذكرني كيف كنت يوماً!!
كلها ذهبت تحت القصف لتأخذ معها ذكرياتي إلى غير رجعة..
نسيت.. نسيت كيف أحب!! وكيف أتعلق بمن أو بما أحب..!!
إنها لعنة الحرب.. وما تتركه من أثر في ضحاياها .
أحاول جاهدة أن أبحث عن ذلك الشباك، أن أتنفس بعض الأمان بعض الفرح.. بعض الحب .
احفّز ذاكرتي الشمّية، فقد سمعت مرة: أن بعض الروائح تعيد للمرء لحظات منسية وتفتح أبواباً وشبابيك قديمة فربما يتسلل قليل من النور إلى القلب ليغسل الصدأ المتراكم في ثناياه.
أرغب أن انسى روائح البارود، فأحاول أن استحضر لذاكرتي رائحة خبز التنور الممزوج برائحة يدي جدتي أو رائحة الغسيل المنشور على المدفأة في عز الشتاء. أو رائحة طعام والدتي في الوطن.. فحتى رائحة الطعام تتغير في الغربة!!
أحاول وأحاول، وإذ برائحة الكشري تغزو كل حواسي بمعنى الكلمة.. فأجدني متجهة إلى المطبخ محاولة خلق عالم بديل من الرز والعدس والدقة التي أعشق في مصر ..أحاول بمواد بسيطة محاكاة مصر التي في خاطري وأجدني اتذكر..
اتذكر مرة واحدة كل شيء ..تعصف ذكريات مصر في ذهني لتطغى على ذكريات سوريا وتخفيها.
اتذكر أبسط التفاصيل وأدقها منذ عام 2008 حتى عام 2014 .
تفاصيل يومية لحظية ربما تبدو لغيري سخيفة لكن الحرب علمتني جيداً أن أقدس تلك التفاصيل وأن اتمسك بها وأن أعرف قيمتها جيداً فربما ستذهب يوما إلى غير رجعة.
مقهى الحرية.. رائحة القهوة بوش.. ضحكات صبيان الشوارع في أثناء اللعب بكرة القدم غير آبهين بما يحصل حولهم..!
النيل.. لونه.. رائحته.. نعم للنيل رائحة في خيالي.
زوجة البوّاب التي كنت اسرّح لها شعرها المجعد .. أحب تلك الصداقات فهي حقيقية جداً.
البوّاب ؛ ذلك الوجه البديل لمعنى الأب الذي فقدت منذ زمن بعيد..
فحمايته المبالغ بها أحياناً وخوفه على سكان العمارة وخصوصاً الأغراب منهم قد يفقد المرء أعصابه لكني كنت أحب تدخّله في ” الرايح والجاي” .
أحب معرفته ماذا طبخت اليوم وما الدواء الذي أتناوله وما السجائر التي أدخنها..
أحب فكرة أن اتخيله باب سندريلا المتمثل في رجل بسيط أسمر بعينين ضاحكتين يغلب عليهما الأسى..
يجعلني احسب حساب الرجعة إلى البيت في وقت متأخر.. وعلى الرغم من أن الباب لا يغلق لكن عيون البوّاب قلقة طوال الوقت..!!
لديه قدرة خاصة بخلق الاحساس بالذنب والمسؤولية لدي ..!! تماما كوالدي الذي اشتاق .
أحب البوابين في مصر وأحب صداقتهم فحين يرضون عليك يجعلوا حياتك جنة وحين يغضبون منك حياتك ستغدو جحيماً.
أحب مترو الانفاق المتداعي، لديه رائحة خاصة ربما يشبه مصر من بعيد، لكن حين تخطو أول خطوة إلى داخله ستشعر بالحياة .
أحب أن أراقب وجوه المصريين فابتساماتهم تخرج من القلب.. وإن أحبوك سيحبوك بكل جوارحهم وإن كرهوك صدقني ستعلم جيداً ..!! لهم قدرات خارقة بالتعبير وخصوصا التعبير الجسدي أما لغة العيون فهي ترجمة حرفية للغة القلب.
أحب سائقي التكاسي.. أرغب أن اكتب عنهم في يوم ما، تكريماً لمهامهم الصعبة التي تتحايل على الزمن وتقصّر المسافات لتجد نفسك ناسياً الزحمة والمشاوير الطويلة في مصر.
لهم قدرة غريبة في رسم الضحكة على وجهي.. لتخرج من قلبي وأحياناً توجع بطني و فكي ..
أصِل لوجهتي سعيدة حتى لو دفعت فلوس زيادة.. أنا سعيدة!!
ربما يستغرب القارئ ويعتبر ما سبق مبالغة مني في حبي لمصر وأن مصر فيها من متاعب مايكفي والقاهرة تقهر أبناءها فما بال الغريب؟!
دعني عزيزي القارئ أحدثك بلغة السينما التي أحب: مصر تعطيك حرية اختيار المكان لتضع كاميرتك وترى من الزاوية التي اخترت أن تراها منها.
لاذنب لها إن اخترت رؤية القبح..!! فمثلها مثل كل البلاد فيها القبيح و الجميل..
انتبه عزيزي القارئ جمال مصر يكمن في تناقضاتها التي تخلق التناغم.
” خذ عيوني وشوف بيها” اختر زاوية كاميرا تلتقط الجمال وأعدك لن ترى الجمال فحسب وإنما
الاختلاف .. الحياة.. الحب.
كما أعدك أنك سترى بعيوني يومياً مصر من زاوية مختلفة، بعدسة كاميرا تسجيلية تلتقط الجمال وتشعر به وكأنها تصور فيلماً رومانسياً لا وثائقياً.
نقلا عن الميزان