مى الصباغ
فجرت واقعة انتحار طالب كلية الهندسة، منذ يومين، حالة من التعاطف الشديد التي ولّدت رغبة في مساعدة ومساندة المصابين بمرض الاكتئاب، محاولة الالتفاف حولهم وضخ المزيد من مشاعر الحب والدفء في حياتهم، لعلها تكون سبباً في تغيير قرارهم بالانتحار، فبدأت حملة جديدة بالانتشار، من خلال نشر صور مكتوب عليها: "انتحار الاكتئاب حقيقي وليس لعبة، إذا كنت تشعر بالاكتئاب وليس لك صديق، من فضلك تحدث معي، أريدك أن تكون حياً"، ولكن قوبلت تلك الحملة بالكثير من الاعتراضات كان أهمها أن على المريض أن يستشير طبيباً أو متخصصاً وليس أحداً آخر.
"جلسات الطب النفسي علاجي الوحيد"
تقول نهى أنور (32 عاماً)، طالبة كلية التجارة جامعة مفتوحة، لرصيف 22: "أنا مريضة اكتئاب منذ أكثر من 10 أعوام، حاول أصدقائي أن يبدوا اهتمامهم وحبهم والالتفاف حولي، ظناً منهم أن هذا هو العلاج من مرض الاكتئاب، لكن لا فائدة، رغم كافة محاولات إحاطتي بالحب والدفء، كان العلاج الوحيد هو الانتظام بجلسات الطبيب النفسي، وتناول مضادات الاكتئاب".
وتنتقد نهى نظرة المجتمع لها قائلة: "للأسف البعض يخيل له أن المرض النفسي لا يحتاج علاجه لمجهود أو استشارة طبيب، لا يفهمون أنه مثله مثل الأمراض العضوية، كالقلب أو ضغط الدم أو آلام العظام، لا يمكن علاجها بشكل ذاتي، وأن استشارة الطبيب هي الحل الأمثل".
وقد فتحت الحملة الأخيرة، عقب انتحار طالب الهندسة، باب النقاش حول مجموعات الفيس بوك، والحملات التي تهتم بالمرض النفسي، ويحاول أعضاؤها والقائمون عليها، تقديم يد العون والدعم لمرضى الاكتئاب بشكل خاص، هل تحقق تلك المجموعات هدفها، أم أنها تتحول للنقيض؟ وهل هي كافية للتغلب على المرض النفسي، أم أنها مجرد عامل مساعد؟
"رغم كافة محاولات إحاطتي بالحب والدفء، كان العلاج الوحيد هو الانتظام بجلسات الطبيب النفسي، وتناول مضادات الاكتئاب، لا نحتاج إلى تضامن شكلي، ولكن ألا نُنبذ، ولا نوصف بالمجانين"
"الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، هي أحد عوامل الإصابة بالاكتئاب، ولكن ليس هي العامل الحاسم في اتخاذ قرار الانتحار، فمرض الاكتئاب هو مرض عضوي يصيب الانسان مثله مثل مرض السكر أو أمراض القلب"
تجيب نهى: "مجموعات الفيس بوك، يمكن اعتبارها منفذاً جيداً للتعبير عما يدور بداخلنا، ولكنها ليست حلاً أبداً، فمهما قدم أعضاؤها دعماً أو مساندة، لن تكون بديلاً عن زيارة الطبيب النفسي".
وتتابع: "لجأتُ لتلك المجموعات في فترة ما من حياتي، كنتُ غير قادرة فيها على زيارة الطبيب، بسبب تدهور حالتي المادية، وكانت كما أشرت من قبل، منفذاً جيداً للتعبير عن دواخلي، لكنها لم تكن بديلاً عن الطبيب".
أما أحمد زكريا (28 عاماً)، صاحب مكتب استيراد وتصدير، فله حكاية أخرى مع التردد لعيادات الطب النفسي: "شخصت كمريض اكتئاب منذ سنتين تقريباً، بعد سنوات عديدة من وجود الأعراض دون فهمها، بسبب تفادي الذهاب لطبيب نفسي، قبل التشخيص، كنت أتخيل أنها أعراض مؤقتة، وكنت أحاول الخروج منها بالرحلات مع الأصدقاء، أو الدخول في علاقات عاطفية، أو الاستماع للموسيقى التي أفضلها، وغيرها من محاولات التغلب على حالة الحزن الدائمة التي كانت تسيطر علي، لكن مع استمرارها، قررت أخيراً اللجوء لطبيب نفسي".
"حالة التعاطف العابرة التي تشهدها السوشيال ميديا حالياً، هي استمرار لحالة الاستهانة بالمرض النفسي"
يتابع زكريا لرصيف22: "حالة التعاطف العابرة التي تشهدها السوشال ميديا حالياً، هي استمرار لحالة الاستهانة بالمرض النفسي، والجهل بالطب النفسي، وتخيل أن التحدث مع شخص غريب قد يعالج الاكتئاب أو يقضي على الميول الانتحارية، الأمر يذكرني بقوة بمن يقول لمريض اكتئاب: عليك بالصلاة والتقرب إلى الله، دون الوعي بأن تلك النصائح والأحكام الدينية، قد تشعر الطرف الآخر بالتقصير في علاقته بالله أو دينه، ما يزيد من اكتئابه وحزنه".
ويشرح زكريا احتياجاته كمصاب بالاكتئاب: "الحقيقة، مريض الاكتئاب لا يحتاج للتضامن الشكلي، سواء من خلال حملات أو من تعليقات أعضاء المجموعات الفيسبوكية، وإنما يحتاج أن يشعر أن المجتمع والأسرة والأصدقاء، لا ينبذونه ولا يصفونه بالـ"المجنون"، ولا يتهمونه بأنه "يتدلع"، أو أنه "فافي"، لا يمكنه تحمل أعباء الحياة".
نحن، مرضى الاكتئاب في مصر
قاوموا التقوقع على الذات: عندما يحوّلكم الاكتئاب إلى مساجين داخل منازلكم
5 تطبيقات تساعدكم على مواجهة الاكتئاب
"تحسنتُ منذ دخولي على الغروب"
على النقيض من وجهة نظر نهى، ترى سارة ماجد (33 عاماً)، مريضة بايبولار ثنائي القطب، والذي يتسبب في موجات متفاوتة من الاكتئاب، وهي أحد مديري مجموعة مهتمة بدعم مرضى الاضطراب الوجداني ثنائي القطب، تقول لرصيف22: "المجموعات الفيسبوكية لدعم المرضى نفسياً مهمة جداً وتحقق هدفها، فأنا على سبيل المثال تحسنت حالتي منذ دخولي تلك المجموعات، وتحفزت للتغيير مع أصدقائي، وأكثر مكان أجد فيه الدعم في حياتي، خاصة وأنني أكون وسط مجموعة من الأفراد الذين يمرون بنفس الظروف، ما يجعلنا داعمين لبعضنا البعض".
وتتابع ماجد: "ساهمت تلك المجموعات بنشر الوعي بطبيعة المرض النفسي في المجتمع العربي، فكان لها الفضل ولو بشكل جزئي، بإزالة وصمات العار التي كانت تلاحق المرضى نفسياً".
"مجموعات الفيس بوك توفر مجتمعا مثاليا لمرضى الاكتئاب"
أما عمرو صبري (40 عاماً)، مدير صفحة مهتمة بالتوعية حول المرض النفسي، ونشر مشاركات وخواطر الأعضاء، يقول لرصيف22: "المجموعات والصفحات الفيسبوكية توفر مجتمعاً مثالياً لمرضى الاكتئاب، أو أي مرض نفسي آخر، وتزيل عنهم الخوف من فكرة إعلان المرض النفسي، خاصة وأننا في مجتمعات تنبذ المريض نفسياً، كأنه حامل للعدوى".
يوضح صبري أكثر: "مرض الاكتئاب أو أي مرض نفسي آخر، يحتاج لتوعية أكبر بكثير من مجرد الحديث عنها على مواقع التواصل الاجتماعي، ورغم أن ما يحدث حالياً هو أمر جيد، لكن المطلوب مجهود أكبر، حتى تنتشر ثقافة الوعي بطبيعة المرض النفسي، وهو ما يتطلب تدخلاً من وزارة الصحة والمجلس القومي للصحة النفسية، المشكل حديثاً".
ويتابع صبري: "لا يمكن القول إن الصفحات والمجموعات الفيسبوكية، كافية أو بديل عن زيارة الطبيب النفسي، لكنها يمكن اعتبارها حاضنة جيدة أو مجتمعاً موازياً يجد فيه ممن يعانون من الاضطرابات النفسية، بيئة جيدة للحديث عما يدور بداخلهم، خاصة وأننا نعيش في مجتمعات تعتبر المرض النفسي (شوية دلع)".
الظروف السياسية والاكتئاب
من جانبه قال استشاري الطب النفسي الدكتور جمال فرويز، لرصيف 22: "للأسف، كل هذه الحملات، رغم أنها سليمة النية وتعتبر بادرة طيبة، لكنها ليست حلاً ولن يكون لها التأثير الطيب المنشود، لأكثر من سبب، أولاً لأن تلك الحملات ليست ممنهجة، ولا يقوم بها أو يشرف عليها مختصون، ولكنها تعتمد أساساً على التريند، أو ما يمكن وصفه بـ"اللقطة اللحظية"، لكن بعد يومين أو ثلاثة، سينفض الجميع، ويفقدون اهتمامهم، كذلك حسب حالة المكتئب، هل هو في المرحلة الأولى من المرض؟ فيمكن مساندته ودعمه من خلال الالتفاف حوله، طبعاً مع اللجوء لمتخصص؟ أم أنه في مرحلة متقدمة وتراوده أفكار انتحارية، ولابد من اللجوء لمصحة نفسية، وإلى بروتوكول مختلف، وهو إيداع المريض في مستشفيات مخصصة مثل الخانكة، والتي هي غرف مجهزة على أعلى مستوى، حيث أرضيات مطاطية وجدران مبطنة وليس فيها أي مصدر للكهرباء أو الأدوات الحادة، أو أي شيء يمكن استخدامه في الانتحار".
ويتابع فرويز: "وكذلك استخدام جلسات الكهرباء، التي يسمح بها القانون في نطاق محدد، وبعد استئذان المجلس الأعلى للصحة النفسية، لإرجاع الموجات الكهربائية في المخ لوضعها الطبيعي، ثم اللجوء لأدوية مضادة للاكتئاب أو مثبتات المزاج، طبعاً مع الجلسات النفسية والعلاجية، كل هذا يأتي بعد اللجوء لمستشفى الأمراض النفسية المتخصصة، لكن كل تلك الخطوات لا يمكن الاستعاضة عنها بالدردشة الفيسبوكية، أو حتى اللجوء لمراحل من العلاج أقل قوة وتأثير من تلك الأساليب".
وينهي دكتور جمال فرويز حديثه لرصيف22، قائلاً: "الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، هي أحد عوامل الإصابة بالاكتئاب، ولكن ليس هي العامل الحاسم في اتخاذ قرار الانتحار، فمرض الاكتئاب هو مرض عضوي يصيب الانسان مثله مثل مرض السكر أو أمراض القلب، فمثلاً نفس الظروف والضغوط يمكن أن تصيب 100 شخص في نفس الوقت، ولكن يأتي دور الجينات الوراثية التي يمكن أن تهيئ شخصاً للمرض النفسي، ويمكن أن تحمي شخصاً آخر، فالأمراض النفسية لا تورث ولكن الجينات المسؤولة عن حماية الفرد من الأمراض تورث بالطبع".
نقلا عن raseef22