د. عبدالخالق حسين
حقاً، نحن نعيش اليوم في عالم مقلوب واقف على رأسه، أو سميه عالم اللامعقول (Surrealism)، عالم فجأة تحولت فيه المملكة العربية السعودية الوهابية من دولة تصدر الإرهاب الوهابي لقتل الشعوب، وبالأخص إلى شعبنا العراقي، إلى دولة نصيرة لثورات الشعوب، وبالأخص لشعبنا العراقي أيضاً، والأكثر غرابة أنها تناصر ثورة تقوم بها شيعة العراق. فسبحان مغيِّر الأحوال من حال إلى حال!!!. عجبي، متى كان الشيطان نبياً؟
وأخيراً طلعت شمس الحقيقة على ما يجري في العراق منذ الأول من تشرين الأول 2019، من حراك جماهيري، أطلقوا عليه شتى التوصيفات والأسماء الثورية الرومانسية بغية جلب الشباب إليها. وكلنا نعرف، ونعترف أن العراق ومنذ تحريره من حكم البعث الفاشي، تعاقبت فيه حكومات فاسدة، أساءت التصرف، وسرقت الأموال، وتساهلت مع اللصوص، وهناك تقصير فاضح في الخدمات، و تصاعد نسبة البطالة، في بلد يُعد الرابع في الثروة النفطية في العالم، وكل هذه الأسباب تبرر ثورة شعب مظلوم ومحروم من التمتع بثرواته. ولكن هل يعقل أن الظلم الذي شمل كل الشعب العراقي وبكل مكوناته دون استثناء، من شماله إلى جنوبه، تقتصر الثورة على مكوَّن واحد وهم الشيعة فقط؟ ومنطقة جغرافية واحدة فقط، وهي بغداد ومحافظات الوسط والجنوب
ذات الغالبية الشيعية؟
فمنذ البدء، قالوا لنا أن هذه التظاهرات سلمية وعفوية، لأن بلغ السيل الزبي، ضد حكومة تمادت في الفساد، وفعلاً شاهدنا فيديو لتظاهرة نسائية سلمية في البصرة، لذلك أيدناها بكل قوة وحماس، و ثبتنا موقفنا هذا في مقال لنا بعنوان: (لتكن تظاهرة البصرة السلمية نموذجاً يحتذى به)(1).
ولكن سرعان ما انكشفت الحقيقة، وتبين لكل ذي عقل سليم، وحس وطني صادق، وضمير حي، أن أصحاب المقاصد السيئة من حكومات خارجية مثل أمريكا وحلفائها في المنطقة (السعودية، والإمارت، وإسرائيل)، قد استغلوا معاناة الشعب العراقي من فساد حكومته، فتم تجيير الغضب الشعبي، وبمنتهى الدهاء، لأغراض لا علاقة لها إطلاقاً بمعالجة الفساد، وتحسين الخدمات، وإيجاد العمل للعاطلين، تلك الشعارات التي رُفِعت في الأيام الأولى من هذه التظاهرات، وسرعان ما تم استبدالها بشعارات ثأرية انتقامية تسقيطية للمسؤولين الشيعة فقط، والتركيز على شعار واحد وهو (إيران برة برة)... الخ، علما بأن الفساد يشمل جميع المشاركين في السلطة من شيعة وسنة، وكرد وغيرهم، وكذلك هناك تدخل في الشأن العراقي من قبل أمريكا، وحلفائها في المنطقة مثل السعودية والإمارات، والأردن، وتركيا وغيرها، فلماذا التركيز على شريحة الشيعة فقط، وعلى إيران فقط؟ فلو عرفنا السبب لبطل العجب.
إذ بات واضحاً لكل ذي بصر وبصيرة أن هذه "الانتفاضة المعجزة" كما يسميها البعض من المبهورين بها، مدعومة من أمريكا وحلفائها في المنطقة مثل السعودية والإمارات وإسرائيل، وما يجري من تخريب وفرض الإضرابات بالقوة على المؤسسات الخدمية، والاقتصادية الحيوية مثل الموانئ والنفط، تشير إلى دور السعودية للإنتقام من العراق، كرد فعل على ما حصل من ضرب المنشآت النفطية السعودية في أبقيق في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، بطائرات مسيرة (درونات) أحدثت أضراراً بليغة بالاقتصاد السعودي، ونقص في تصدير النفط إلى العالم، قُّدر بخمسة ملايين برميل يومياً، ولفترة قد تطول لعدة أشهر. وادعى الحوثيون في اليمن بأنهم هم وراء تلك الضربة الماحقة، إلا إن السعودية لم تصدقهم لأنهم يفتقرون إلى خبرة في هكذا تقنية متطورة، والدقة في ضرب الأهداف، واعتبرت هذه الصواريخ أو الدرونات جاءت من الشمال، أي من العراق، وبالذات بواسطة المليشيات العراقية الموالية لإيران.(2)
لذلك يركز المندسون المخربون في هذه التظاهرات على تعطيل عمل المؤسسات الاقتصادية، وخاصة عمل الموانئ وتخريب المؤسسات النفطية في جنوب العراق وفق أوامر تأتيهم من وراء الحدود. وما هذه الأعمال إلا عمليات ثأرية من السعودية ضد العراق.
وما يؤكد ذلك هو آخر تقرير في هذا الخصوص نشرته قناة (الحرة) الأمريكية بعنوان: (هل يستهدف متظاهرو العراق قطاع النفط؟ تقرير يحذر العالم من العواقب)(3)، جاء فيه:
((قال تقرير نشره موقع متخصص في مجال الطاقة إن الأحداث في العراق يمكن أن تؤثر بشكل كبير على إمدادات النفط العالمية، فيما لو أقدم المحتجون الغاضبون على استهداف المنشآت النفطية جنوب البلاد، إن لم يتم الاستجابة لمطالبهم. وذكر التقرير الذي نشر في موقع "أويل برايس" أن العراق يشكل التهديد الأكبر لأسواق النفط العالمية باعتبار أن استمرار الاحتجاجات وتصاعد حدتها يمكن أن يؤثر على نحو خمسة ملايين برميل من النفط هي حجم ما ينتجه العراق يوميا من حقوله النفطية. وقال كاتب التقرير إن السؤال الأبرز الذي يطرح حاليا هو هل يجرؤ المحتجون على التحرك باتجاه النفط العراقي؟ ويضيف أن كل الدلائل تشير إلى أنهم سيفعلون، بل هم أقدموا على ذلك بالفعل عندما أغلقوا الطرق المؤدية إلى خمسة حقول نفطية في البصرة في وقت سابق من الشهر الماضي. ويتابع أن المحتجين كانوا جريئين بما يكفي لإحراق قنصلية إيرانية ومهاجمة مبنى أمني موالي لإيران، وهم يعرفون جيدا أن رد الفعل سيكون عنيفا للغاية)). انتهى الاقتباس.
وهذا يدل بدون أدنى شك أن السعودية وراء هذه "الثورة" لتدمير العراق. لاحظ نغمة التحريض في التقرير، حين يسأل: "وهل يجرؤ المحتجون على التحرك باتجاه النفط العراقي؟". فيجي: "أن كل الدلائل تشير إلى أنهم سيفعلون، بل هم أقدموا على ذلك بالفعل عندما أغلقوا الطرق المؤدية إلى خمسة حقول نفطية في البصرة في وقت سابق من الشهر الماضي".
كذلك هناك محاولات للهجوم على سجن الحوت في محافظة ذي قار، وما أدراك ما سجن الحوت؟ إنه سجن فيه نحو ستة آلاف إرهابي، أغلبهم من السعودية، محكوم عليهم بالاعدام. لذلك يركز أعوان السعودية من المندسين المخربين، وبتخطيط من قياداتهم من خارج الحدود، على محافظة ذي قار وإشعال الحرائق في دوائر الدولة، وبيوت المسؤولين فيها، وحرق الإطارات في الشوارع، والقيام بعدة أعمال تخريبية في عدة أماكن في آن واحد لتشتيت جهود القوى الأمنية، وتضليلهم، وبالتالي تسهيل الهجوم على سجن الحوت لإطلاق سراح آلاف الدواعش السعوديين وغير السعوديين. وعندها يمكن تسليح هؤلاء السجناء لمواصلة "الثورة"، وإكمالها لتحويل المدن ذات الأغلبية الشيعية إلى خرائب وأنقاض كما عملوا في المدن السنية من قبل. وهذا هو الثأر البدوي الذي تريد تحقيقه السعودية ومرتزقتها فلول البعث، والصخريون والخراسانيون، والشيرازيون، وغيرهم من تنظيمات ذات أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، من فئات منحرفة بأسماء وذرائع دينية باطلة، وهي في الحقيقة من فلول وأيتام البعث السائبة التي تعرض خدماتها لكل من يدفع لها، ويدغدغ آمالها الفنطازية بالعودة للسلطة.
وإذا كانت كل هذه الأدلة لا تكفي لإقناع ذوي النوايا الحسنة، أن قوى خارجية وخاصة السعودية هي التي تقرر الأجندات وتدير هذه التظاهرات، و مازالوا ينفون التدخل الخارجي، والمخربين المندسين فيها، نقدم شهادة ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، السيدة هنيس بلاسخارت في تقريرها الذي ألقته في مجلس الأمن الدولي قبل أيام، حذرت فيه ممن وصفتهم بالقوى الديناميكية التي تسعى إلى اختطاف المظاهرات السلمية. وقالت إن "أفعال العنف المدفوعة بأسباب سياسية أو انتماءات خارجية تضع العراق على مسار خطير وتخطيط الفوضى والاضطراب. وأضافت أن "هذا يقوّض المطالب المشروعة للشعب العراقي ويعقّد عمل قوات الأمن ويمنح مبررات لاستخدام العنف لقمع المظاهرات السلمية."(4)
فيا ترى، من هي القوى الديناميكية التي تسعى إلى اختطاف المظاهرات السلمية غير السعودية وحليفاتها في المنطقة ومرتزقتها في الداخل؟
أيها العراقيون، يا من تدَّعون أنكم تقرؤون الممحي وما بين الأسطر، أفيقوا من نومكم وغفلتكم، فـ(الطريق إلى جهنم معبد بالنوايا الحسنة). لقد بات دور السعودية والإمارات وإسرائيل وأمريكا واضحاً في هذه "الانتفاضة المعجزة". إذ كما يعرف الجميع، أنه لا يمكن تفجير الثورات في أي بلد من قبل حكومات معروفة بعدائها حتى لشعوبها مثل السعودية. والسؤال هنا: كيف ومتى، والحالة هذه، صارت السعودية الوهابية التكفيرية نصيرة لثورات الشعوب المضطهدة حتى تقف اليوم نصيرة لانتفاضة الشيعة؟ إنها مهزلة والله.
تصوروا لو هذا الحراك الجماهيري قد حصل في السعودية، أو في العراق في عهد حكم البعث الصدامي، فماذا كان مصير الجماهير؟ لا شك إبادة جماعية.
نعم هناك فساد، وشعب مظلوم ومحروم من ثرواته، إلا إن الذين يحركون هذه "الثورة" من وراء الحدود ليست غايتهم حل مشاكل هذا الشعب الثائر، بل تدمير العراق والانتقام من شعبه، واجتثات النفوذ الإيراني المنافس لأمريكا وحلفائها، إذ كما قال الكاتب خضير العواد في مقاله القيم: (كيف نصلح الفساد بأفسد منه؟)(5).
العراق مهدد بكارثة حقيقية ماحقة، والسبب هو موقف الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 2005، التي يهيمن عليها الشيعة، أنهم وبدوافع أيديولوجية، ربطوا مصير العراق بإيران. وكما ذكرنا وحذرنا مراراً أن العراق ليس بإمكانه الدخول في حرب مع أمريكا أو حلفائها في المنطقة، لذلك على العراق الحفاظ على علاقة ودية مع أمريكا ودون العداء لإيران. لأن بإمكان أمريكا والسعودية تدمير العراق وبواسطة العراقيين أنفسهم، وتحت مختلف المبررات المشروعة، وبما يسمى بـ(الحرب الناعمة). فما يجري الآن في العراق هو ليس لمحاربة الفساد، بل لإسقاط الحكومة المنتخبة، والعملية السياسية برمتها، والمجيئ بنظام دكتاتوري يتسلل من خلاله حزب البعث الفاشي إلى قمة السلطة كما عمل من قبل حين هيمن على السلطة بتسلقه على أكتاف الآخرين.
فهل من يسمع؟