ماهر رزوق
فكروا في الواقع ، في هذه الموجة الضخمة من الانسحاب التي أصبحت بسببها جميع المؤسسات وكل القيم والغايات الكبرى التي نظمت المراحل السابقة تدريجيا مفرغة من جوهرها . ما ذلك إذا لم يكن فرارا جماهيريا يحول الجسد الاجتماعي إلى جسد فاقد للحياة ؟؟
و من غير المجدي اختزال المسألة في الأبعاد المتعلقة بالشباب ، إذ لا يمكن التخلص من قضية حضارية بإحالتها إلى مسألة الأجيال . فمن منا لم تطله بعد هذه الموجة العارمة ؟
تتنامى الصحراء هنا كما في فضاءات أخرى ، فالمعرفة والسلطة والعمل والجيش والأسرة والكنيسة والأحزاب ..الخ سبق وتوقفت عن عن الاشتغال كمبادئ مطلقة ومعنوية ، ولم يعد أحد يؤمن بها أو يستثمر فيها أي شيء ، على وجود تفاوت في ذلك بين الناس .
من لا يزال يؤمن بالعمل حينما نعرف نسب الغياب و الدوران الوظيفي ، و عندما نرى الحماسة التي للعطل وعطل نهاية الأسبوع و أنشطة الترفيه ، وحينما تصبح الإحالة على التقاعد تطلعا جماهيريا ، بل و مثلا أعلى ؟
و من لا يزال يؤمن بالأسرة عندما نرى تزايد نسب الطلاق ، و إرسال المسنين إلى دور العجزة ، و عندما يرغب الآباء في البقاء شبابا و يلجؤون إلى المختصين النفسيين ، و عندما تصبح الزيجات حرة ، و حينما يصبح الإجهاض و منع الحمل والتعقيم أمورا مشرعنة بقوة القانون؟
من لايزال يؤمن بالجيش عندما توظف جميع الوسائل في سبيل إصلاحه ، و حينما لا يعود التهرب من الخدمة العسكرية عارا ؟
من لا يزال يؤمن بفضائل الجهد والادخار والضمير المهني والسلطة والعقوبات ؟
و من بعد الكنيسة التي لم تعد تتمكن حتى من جلب المحتفلين بالقداس ، تعرف الحركة النقابية تراجع التأثير ذاته .
و بالتالي إذا كان النظام الذي نعيش فيه بكبسولات رواد الفضاء ، فإن ذلك يرجع إلى الفراغ العاطفي وانعدام الوزن اللامبالي الذي تتم فيه العمليات الاجتماعية ، أكثر ما يرجع إلى العقلانية والقابلية للتوقع اللتين تسودان فيه .