د. محمود العلايلي يكتب.. حقيقة التنوير
اعتبر العديد من التنويريين أن هزيمة تيار الإسلام السياسى'> الإسلام السياسى فى معركة 30 يونيو تعد مدخلًا لبداية عصر تنويرى حديث، كما اعتبر العديد من المجددين أن الهجوم المباشر على بعض الوجوه الدينية المحرمة عرفًا يعد نموذجًا للتخلص من تجار الدين دون حسابات من الخوف أو الابتزاز، مثل كشف الوجه التجارى للداعية «عمرو خالد»، أو فضح التوجهات السياسية لـ«الشعراوى» وآرائه المستهجنة فى العلاج والتداوى، والتفكيك الممنهج لقدسية «صحيح البخارى»، أو التعامل باستخفاف مع الحوينى ويعقوب وبرهامى وحسان وأشباههم من مطلقى فتاوى إرضاع الكبير ونكاح الميتة، بالإضافة إلى فتح المسكوت عنه مثل قضايا الحجاب والعلاقة بين الجنسين. وإن كان الإصلاح الدينى من العوامل المهمة فى العملية التنويرية، إلا أن ما سبق رد الفعل يتسم بالمبالغة، وإن شئنا التحديد فالتوصيف غير دقيق، لأنه مع التقدير لأى خطوة تصحيحية، فالتنوير منظومة أكثر اتساعا فى مفهومه، وأدق إحكاما فى آلياته، كما أنه أشمل توجيها فى أهدافه، وبالمقارنة بين عصر النهضة الأوروبى وما أطلق عليه عصر التنوير فى مصر فى النصف الأول من القرن الماضى، فقد اتسم هذا التاريخ ببعض المعارك حول الحريات الدينية وحرية التعبير، وبسبب وجود جاليات أجنبية مؤثرة فى ذلك العصر فقد اقترن مصطلح التنوير بالتنوع الدينى والطائفى - وهو عرض جانبى للاستعمار- بينما نجد أن عصر التنوير فى أوروبا والذى سبق عصرنا بحوالى مائتى سنة قد تميز بالإصلاح الدينى الذى اقترن بالإصلاح السياسى، والذى تبتعه بعد ذلك ثورة صناعية أثرت بشكل مباشر على المجتمعات الأوروبية من حيث البنية الاقتصادية للدول والتركيبة الشخصية للأفراد.
إن تركيز سبب الإظلام فى الدين والمستفيدين منه، ومن ثم اختصار التنوير فى التخلص من تأثير الدين أو تجاره، يعد تبسيطا شديد السذاجة- إن شئنا الدقة- فالتنوير يجب أن يقترن بنمط حياة يعتمد على العقل الواعى والتركيز على عدم الاعتداد بالمرجعيات الماضوية فى تسيير شؤون المواطنين، وهو ما لا يتوافر إلا فى المجتمعات الصناعية التى تعتمد على العلم أول ما تعتمد، سواء فى التخطيط، أو توفير الموارد وضبط أدوات الإنتاج والتسويق.. وقبل هذا كله الابتكار والتجديد، كما لا يتكامل هذا المجتمع إلا بنظام قضائى دقيق وحازم ومستقل، مستندا إلى سلطة تنفيذية محايدة قادرة على توفير مناخ العمل للمواطنين وحماية أرواحهم وممتلكاتهم. إن التفكير فقط بالاعتماد على المفكرين والكتاب، أو على رواد منصات التواصل الاجتماعى كأدوات لإحداث حركة تنويرية يعد ضربا من الأحلام، أو التنصل عمدا من المسؤولية، ليستمر الوضع القائم عبارة عن أصوات تعلو حينا وتخفت أحيانا، سواء من الإعياء أو اليأس، بينما عجلة الماضى تسير بنفس معدلها إلى الخلف، ولكن لكى تتكامل منظومة التنوير يجب أن تبدأ ضمن توجهات سياسية بإرادة ممنهجة تعتمد على الأساليب الإصلاحية فى العمل السياسى والاقتصادى، مستهدفة تكوين مجتمع صناعى بكل ما يشتمل عليه المعنى، ثم يأتى دور المفكرين ورواد منصات التواصل فى إزالة الغموض عن الأفكار الماضوية، وطرح رؤى مختلفة عن المستقبل. إن تركيز المجددين على أن الدين هو الانعكاس الوحيد للماضى وأن إصلاحه هو بوابة العبور للمستقبل، لهو من قبيل الوهم بقدر الوهم الذى يبيعه تجار الدين، لأنها معركة، إن قدر وكسبناها، فلن تغير على الأرض شيئا كثيرا، لأن الواقع يؤكد أن الماضى موجود فى النظم السياسية الشمولية، وموجود فى مجتمعات المألوف والمعروف والمأثور، وموجود فى الظلم والعدالة البطيئة، وموجود فى التعليم بنظام التحفيظ والتلقين، وموجود فى مجتمع البداوة والخشونة، وموجود فى النظرة الذكورية فى تفسير الوجود، وإذا أردنا أن نصل إلى التنوير، فعلينا أن نصلح ذلك كله وليس الدين فقط.
نقلا عن المصرى اليوم