مؤمن سلام
یتصف النصوصیون بأنهم دائما ینظرون إلى الأمور نظرة أحادیة من ناحیة النص المقدس دون النظر إلى الجوانب الأخرى للمسألة ودون النظر حتى لروح النص ومقاصده. لذلك مع كل حادث انتحار في مصر یخرج النصوصیون لیصبوا اللعنات على المنتحر ویقوموا برص أحكام فقهیة ما انزل االله بها من سلطان ولكن من وضع فقهاء القرون الوسطي. أحكام فقهیة انشغلت دائما بما هو مادي وأهملت كل ما هو نفسي یتعلق بإكراه الإنسان على سلوك معین.
مسألة الانتحار هي من الأمور المعقدة التي یحتار فیها الإنسان فهل هو شجاعة أم هروب؟ هل هو انتحار فعلا أي أن إنسان تخلى عن حیاته حرا مختارا أم أن المجتمع من حوله دفعه دفعا نحو الانتحار فیصبح اقرب إلى القتل منه إلى الانتحار؟
في مجتمعنا المصري نجد أن كل الأمور تدفع الشخص للانتحار خاصة إذا كان من أصحاب العقول المفكرة وأصحاب المواهب والإبداع والمهارات العالیة، ولیس من القطعان المستأنسة التي لا تفكر ولا تعمل عقلها وطالما حصلت على ما یملأ أمعائها فلا مشكلة والدنیا ربیع والجو بدیع. فنحن نعیش في مجتمع یمارس الدیكتاتوریة بكل أنواعها ویجعل الإنسان لا یستطیع ممارسة حیاته وفقا لأفكاره ومعتقداته ولكن وفقا لأفكار ومعتقدات المجتمع والتي حولتها الدولة إلى قوانین تعاقب بها كل من خالف المجتمع المستبد.
فالإنسان في مجتمعنا المصري لا یستطیع أن یعتنق أي عقیدة باستثناء ما یرضى عنها المجتمع، ولا یستطیع أن یكون له فكر إلا ما یوافق فكر المجتمع، ولا یستطیع أن یتزوج ”خاصة إذا كانت فتاة“ إلا من ترضى عنه الأسرة، ولا یستطیع أن یلبس إلا ما یوافق علیه المجتمع، ولا أن یتصرف إلا وفقا لرؤیة المجتمع للصواب والخطأ، ولا یستطیع أن یبدع في أي مجال إلا وفقا لرؤیة المجتمع للإبداع، ولا یستطیع أن یدرس إلا ما تحدده له الدول، بل لا یستطیع أن یتبع آراء فقهیة داخل نفس الدین إلا تلك التي یتبعها المجتمع. ببساطة نحن نعاني من الاستبداد الاجتماعي والسیاسي والدیني والثقافي والفني.
فكیف یمكن لإنسان یعاني من كل هذا الاستبداد والكبت والقهر أن یستمر في الحیاة؟ سیقول قائل ولكن هناك ملایین تخضع لهذا القهر والاستبداد ولم تنتحر، أقول وهل كل الناس مثل بعضها؟
هل یستطیع كل إنسان أن یعیش في سجن كبیر یحاصر كل تفصیلة من تفاصیل حیاته؟
نعم لم ینتحر ملایین المصریین ولكن ألا یلتفت احد إلى حجم التشوهات النفسیة التي تعاني منها الشخصیة المصریة في السنوات الأخیرة؟ وحجم السلوكیات التي تعبر عن تشوهات نفسیة في كل قطاعات المجتمع؟
الإحصاءات تتحدث عن 13 ملیون مریض نفسي بنسبة 17 %من السكان، ولكن هذا رقم یتعلق بمن ذهبوا للطبیب أو لمستشفى نفسي، فما عدد من لم یذهبوا لأنهم یعتقدون أن المرض النفسي یساوي الجنون فقط؟
ألا یلاحظ أحد حجم العنف المتزاید في المجتمع؟ ألا یلاحظ أحد ظهور جرائم جدیدة تتعلق باغتصاب أباء لبناتهن، والاعتداء على الحیوانات بشكل دموي، وقتل وسحل وتعذیب المختلفین دینیا أو جنسیا في الشارع وعلى مرأى ومسمع من الجمیع بما في ذلك الشرطة؟
صحیح الملایین لا تنتحر ولكنها أصبحت مریضة نفسیًا..
هذا مجتمع لا یمكن الحدیث فیه عن منتحر ولكن عن مقتول بید المجتمع.
المنتحر هو هذا المنتحر الأوروبي الذي أصیب بالضجر من الحیاة الرتیبة المملة أو الوحدة وهي أمور یستطیع أن یعالجها ویغیرها ولا ید للمجتمع فیها ولكنه یختار مغادرة الحیاة، أما المجتمع الذي یدفع الإنسان نحو الجنون أو الموت فهو مجتمع قاتل والإنسان فیه ضحیة ولیس منتحر.
فلا تحاكموا المنتحر أو المنتحرة ولكن حاكموا المجتمع القاتل.